انتشرت مؤخرا ظاهرة الشعر اللحظي الذي يأتي بعد المناسبة مباشرة، أي خلال الساعات الأولى بعد الحدث -سواء كان حزينا أو سعيدا-.

وغالبا ما يكون هذا النوع من الشعر منزوع الإحساس والعاطفة على الأقل بالنسبة لي. فأنا لا أؤمن به، خصوصا أن الشاعر لا يعطي نفسه مساحة من الوقت ليرتب فيها حقيقة مشاعره وأدواته ومدى نضجها، واستحقاق المناسبة لسفح هذه القصيدة أو المقطوعة كل ذات مناسبة طارئة.

أرى الشعراء يتسابقون ليشبعوها شعرا، وأي شعر!! فهو كما يقول شاعرنا أحمد عسيري (شيء مقشع وشيء بالشريم). يكتبون بلا تورع، ولا حفاظ على جوهر مشاعرهم وأحاسيسهم وأسمائهم..

 كلما سمعت شاعرا من الشعراء (اللحظيين) تسرع بقصيدة،عدت أفتش في ذاكرتي عن الكبير العظيم ابن بغداد (عبدالرزاق عبدالواحد) لأشبع سمعي بقصيدته (سلام على بغداد). هذه القصيدة الممتلئة بالشعر الحقيقي الذي يقال عنه شعر..جاءت حسب مقاييس المناسبة بقدر ثقلها ووجعها ووقعها على نفس عبدالرزاق، وبقدر ما كانت قصيدة صادقة ونادرة.

فبعد أن ملئت روحه وجدا وفقدا وبكاء دون أن يتكلف في نبش المفردات العميقة والعقيمة شعرنا وهو يقرؤها بعظمة المناسبة وتفردها وتمكنها من ذات الشاعر. هذه القصيدة تحديدا في الشعر العربي الحديث مكتملة الأركان: الإحساس والفقد والوجع والغربة والحنين.حشد فيها مناسبات سبعين عاما، تنقل فيها الشاعر بين نقائض الحياة شبابا وكهولة وفقرا وغنى سلما وحربا لقاء وفراقا.. استخلص سنينه المتطاردة في أبيات عظيمة عنونها بتلك المناسبة المؤلمة وهو يغادر وطنه مثقلا بالوجع والدموع، ويودع الوطن الذي كرمه وقدره واحترمه شاعرا كبيرا من أول بيت حتى آخر بيت في القصيدة.. تتجدد في كل جزء وجملة منها العاطفة القوية، وتحتشد الصور القوية الناتجة عن عظيم المناسبة ومدى تأثيرها على إحساس الشاعر البغدادي..

 لذلك وعلى مستوى الأجناس الأدبية فالشعر يأتي أولا، وبهذا فميزانه حساس جدا، ومن المهم أن يكون قائما على مساحة كافية من الوقت تتيح فرصة أن يكون قويا معبرا صادقا ناضجا مقروءا ومتقبلا من القراء..

إن الشعراء الحقيقيين هم الذين يحترمون الكلمة ويقدسون القصيدة.. يهتمون بالكلمة.. يهابون على أسمائهم من السقوط إلى درجة الاستهلاك وانحدار الذائقة الشعرية..

أتمنى على الشعراء أن يتأنوا في سكب مشاعرهم على الورق.. لقد امتلأت أرفف المكتبات وأدراج المكاتب ومعارض الكتب بالشعر الذي لا يكون أكثر من كلام خال من أي حس شاعري..

لقد صدق وأوجز وشرح الحال الناقد الأستاذ حسين بافقيه حين غرد ذات مناسبة شعرية كاتبا: (ما أكثر الشعراء! وما أقل الشعر!).