قرأت وسمعت حديثاً كثيراً عن مقال الوزير الإيراني جواد ظريف الذي يقترح فيه على العالم أن يتخلص ممَّا أسماه [الوهابية] بزعمه، ونشرته النيويورك تايمز قبل أيام، ثم قرأتُ المقالَ في ترجمةٍ نشرها موقع إسلام ديلي، فلم أجد فيه جديدا أو شيئا يُفسِر تداوله بكثافة غيرَ كون كاتبه وزير الخارجية الإيراني، أما محتوى المقال فلا يحمل مضموناً علمياً ولا يشتمل على إحصائية واحدة وليس فيه اعتماد على تقارير مراكز بحثية، هو فقط سجل من الانطباعات الشخصية والمغالطات والاستنتاجات التافهة، بل أؤكد أنه لا يختلف في تفاهته عن كتابات أكثر الكتاب الليبراليين، أو الليبروإسلاميين من المعادين للمنهج السلفي، ومن ضمنهم -مع الأسف- سعوديون، أو كتابات المشايخ الخرافيين ممن شاركوا في مؤتمر جروزني أو من يتفق معهم في عدائهم للسلفية ودولتها، حتى إنك لو ألقيت اسم ظريف جانباً ووَضَعْتَ مكانه اسمَ واحدٍ ممن وصفتُ، ثم عرضتَ المقالَ على القراء فلن ينتبه الأكثرون لهذا التبديل إن لم نقل الجميع.

ثَمَّة فرق بين مقال ظريف وكتابات من ذكرتُ، وهو أن ظريفاً صَرَّح بأنه يعني بالوهابية المملكة العربية السعودية، وأنه حين يُطالب بالتخلص من الوهابية إنما يُطالب بالتخلص من الدولة التي تحتضنها، أما الكُتَّاب الذين أومأتُ لهم فأكثرهم - وخاصة السعوديين منهم- يتهمون السلفية بمعزل عن الدولة، في محاولة خطيرة للتفريق بين المملكة العربية السعودية والمنهج الذي قامت عليه.

فيما سوى ذلك لا فرق بين مقال ظريف ومقالاتهم، لذا نَجِدُ الإعلام الإيراني كثيراً ما يستشهد بكتابات بعض السعوديين لدعم ما يريد الترويج له من أفكار تتهم بلادنا، فالإيرانيون يُدْرِكُون أن محاولات هؤلاء الكتاب التفريق بين الدولة والدعوة كالتفريق بين الجلد واللحم، أمرٌ مستحيل إلا في حالة واحدة وهي موت الضحية، وهذا هو المطلوب إيرانياً.

دفعني المحتوى المتهافت لمقال ظريف إلى البحث في مستوى القيمة العلمية فيما يُكْتَب عن السعودية في الصحافة الأميركية، فوجدت العديد من المقالات المنقولة إلى العربية، وللأسف لم أعثر عليها في مواقع بحثية عربية، بل في مواقع أميركية وأوروبية موجهة للقارئ العربي، باستثناء موقع واحد هو الإسلام ديلي، لكنني لم أجد في تلك المقالات الكثيرة والمرتبطة بكُتَّاب كبار لهم وزنهم أيَّ مقال يختلف عن مقال ظريف في مستواه العلمي، بل جُل ما يُكْتَب عن السعودية في الإعلام الأميركي مقالات تحريضية فقط غير مُتَّكِئة على نتائج بحثية استقرائية، وهُنا سألت نفسي: كيف لمثل هذه المقالات أن تؤثر في الرأي العام الأميركي ومن ثَمَّ التوجه السياسي بالرغم من سطحيتها وضحالتها، بل ومخالفتها لما يعلمه جيداً رجال الأمن والمخابرات الأميركان؟

والجواب: أن الرأي العام لا يحتاج في التأثير عليه إلى مقالات علمية، بل إلى عناوين ذات وقع على النفس كالعنوان الذي اختاره جواد ظريف لمقالته "دعونا نُخَلِّص العالم من الوهابية" فهناك دراسات لدى المتخصصين في إدارة الرأي العام تؤكد أن نسبة تصل إلى 90% من القراء يكتفون بالعناوين فقط، وحين تُريد أي منظومة إعلامية توجيه الرأي العام نحو فكرة معينة فما عليها إلا تكثيف العناوين التي تخدم ترسيخ هذه الفكرة، وسوف يجد المجتمع نفسَه يوماً ما يعتنقها بقوة دون أن يملك أو حتى يطلب أي دليل عليها.

فحين يقف المواطن الأميركي أمام بائع الصحف أو لدى شاشة حاسوبه يقلب عناوين الصحف والمجلات وتتكرر عليه عبارات "السعودية، الإرهاب، التفجير، القتال، الوهابية، الذبح، القتل، السلفية، ضحايا 9/11، السعوديون.." فإن ذلك كفيل بأن يجعله مقتنعاً بفكرة السعودية السلفية الإرهابية وراء القتل في 9/11، ووراء كل عمليات الإرهاب في العالم، مع أنه لم يقرأ موضوعاً واحداً في حياته عن السعودية أو عن الإرهاب، وإنما كانت تمر به هذه العناوين وهو يبحث عن أخبار المشاهير من المغنين والموسيقيين والممثلين أو غير ذلك، وربما كان لم يسمع بالشرق الأوسط في حياته إلا من خلال أخبار المحتلين الفلسطينيين لوطن الإسرائيليين [هكذا وصلته الصورة].

بل وَجَدْتُ أن المقالات التي تتحدث بإيجابية عن علاقة السعودية بالتطرف تحمل عناوين تعطي انطباعاً مغايراً لمحتواها، أضرب مثالاً لذلك بمقال نشرته لوس أنجلوس تايمز في يوليو من هذا العام يتحدث عن حقيقة أن السعودية كدولة وكمؤسسة دينية ليست مسؤولة عن التطرف والإرهاب في العالم، بل إن علماء المملكة منذ نشأتها لا يوجد فيما يقدمونه مواد تخدم التطرف أو تدعو إليه، وقد كتبه غريرغوري غوز، إلا أن مشكلة المقال تكمن في عنوانه "لا يمكن للسعوديين كبح جماح الدولة الإسلامية، إنها فقدت السيطرة على السلفية العالمية منذ فترة طويلة". فالعنوان يُعطي انطباعاً مغايراً لما في داخل المقال، حيث يقرر العنوان تهمة التطرف على السلفية العالمية وأنها وراء الفكر الداعشي، وأنها ابنة السعودية التي خرجت عن سيطرتها. ونشرت الواشنطن بوست افتتاحية ممتازة في 15 سبتمبر، أي قبل أيام قلائل تُطالب فيها أوباما باستخدام الفيتو ضد قرار مجلسي النواب والشيوخ القاضي بالسماح لذوي ضحايا 9/11 بمقاضاة السعودية، ورأت أن هذا القرار وإن كان حصل على الإجماع في هاتين الدائرتين إلا أنه مصادم للقانون. لكن هذه الافتتاحية الجيدة بالنسبة لنا جاءت تحت عنوان مدمر لمحتوى المقالة وهو "إتاحة الفرصة لضحايا 9/11 بمقاضاة السعودية ليس بهذه السرعة"، فالعنوان يعطي القارئ أن اعتراض هيئة تحرير الصحيفة إنما هو على سرعة اتخاذ القرار وليس على القرار نفسه.

إذاً ليست المشكلة لدينا في مقال جواد ظريف، بل المشكلة في توجهٍ غالبٍ لإعلام دولة عظمى كالولايات المتحدة ضد السعودية، ومن المؤسف والمؤلم أن يتماهى معه كُتَّاب من مختلف التوجهات سعوديون وعرب ومسلمون من شتى المدارس الفكرية.

الرد العلمي والتاريخي والواقعي على ما يقوله كل هؤلاء ليس أمراً صعباً، فمن السهل جداً وبحركة على مُحَرِّك قوقل، يمكنك استحضار عشرات التسريبات والاعترافات التي تُدِين المخابرات الأميركية والصهيونية بأحداث 9/11، ويمكن أيضا استحضار حكم القاضي جورج دانيلز في محكمة نيويورك بتغريم طهران 10.7 مليارات دولار من أجل دورها في هجمات 11 سبتمبر، بينما لا يوجد أي حكم قضائي على السعودية يُدينها في هذه الأحداث، بل على العكس يوجد أكثر من حكم قضائي يبرئ المملكة من أي دور في هجمات مانهاتن، بل حتى المؤسسات الخيرية السعودية والتي يتهمها ظريف ومن شايعه من الليبراليين والخرافيين والغربيين بأنها تدعم التطرف حصلت على أحكام براءة قطعية من القضاء الأميركي، كهيئة الإغاثة ومؤسسة الحرمين التي شطبتها مؤخراً الخزانة الأميركية من لائحة المنظمات الداعمة للإرهاب.

ومن السهل أيضاً إثبات العلاقة بين القاعدة وإيران عبر المراسلات الخطية التي تم العثور عليها بين أسامة بن لادن والإيرانيين منذ أن كان أسامة في السودان، وعبر إيواء إيران لقادة القاعدة حتى اليوم الذي نكتب فيه هذا المقال، وأيضا عبر عدم تعرض إيران أو إحدى سفاراتها في العالم لأي هجوم إرهابي، وكذلك عبر اعتراف العدناني المتحدث باسم داعش بأن الظواهري كان ينهاهم عن التعرض لإيران. كما يمكن إثبات علاقة إيران بـ"بوكوحرام" عبر شحنات الأسلحة الإيرانية التي تم ضبطها في السنغال وجامبيا متجهة إلى نيجيريا. كل ذلك وأكثر منه يمكن إثباته بسهولة، وقد ألف الأستاذ حازم السويدي كتاباً متميزاً في علاقة الجماعات المتطرفة بإيران ويمكن للقارئ مراجعته والإفادة منه. مثل هذه الردود سهلة جداً كما ذكرت، لكن الذي ليس سهلاً هو أن تجعل هذه الحقائق رأياً عاما محلياً وأميركياً وعالمياً.

إن التحالف الصفيوأميركي [صفوي-صهيوني-أميركي] يعمل بدأب لجعل فكرته ضدنا رأياً عاماً عالمياً، ولا يبالي حتى لو استخدم في سبيل ذلك وسائل لا أخلاقية بل إجرامية، كما حصل يوم السبت الماضي 17/12/1437 من تفجيرات في مانهاتن، وهو الحي نفسه الذي وقعت فيه أحداث9/11، وسوف يثبت بعد سنوات أن مَن وراءها عصابة من المخابرات، كمحاولة للتأثير على قرار أوباما استخدام الفيتو ضد قرار مجلسي النواب والشيوخ بالسماح لضحايا غارات سبتمبر بمقاضاة السعودية. التفجيرات في مانهاتن خاصة لها مدلولها الذهني الذي يسهل معه توجيه الرأي العام كيف شاءت آلة الدعاية، وبالطبع هي تريد العمل على ترسيخ التوجه الجماهيري السلبي ضد السعودية، ولا بأس بعد 10 سنوات أن تأتي التحقيقات بنتائج مخالفة لما تَكَوَّن عليه الرأي العام، حيث لن يكون لهذه التحقيقات أي ثمرة بعد أن أسقطت الفِخَاخ من أسقطت.

ظريف يستدل على دعاواه بأن السعودية بنت آلاف المساجد والمدارس حول العالم، ونحن نقول: إن هذه حقيقة نفخر بها، ولا يستطيع ظريف أن يقدم لنا متطرفا تخرج من هذه المساجد والمدارس التي بنيناها، فالدليل الذي اختاره ظريف ضدنا ينقلب لصالحنا لو كانت النتائج العلمية هي المطلوبة لكسب الرأي العام الأميركي، إن السعودية اليوم في حاجة ماسة لشراء عمود أسبوعي على الأقل في كبريات الصحف والمجلات العالمية، وأعتقد أن ذلك لن يُكَلِّفنا كثيراً من المال، وربما كانت ميزانية وزارة الإعلام بوضعها الحالي قادرة على تحمل هذا العبء في مقابل تقليص مصروفات لا ضرورة لها.