تحصين الشباب ضد التطرف بجانبيه العريضين: الإفراط والتفريط، أمر تشتغل عليه في بلادنا كثير من الجهات الدينية والتربوية والأمنية، بل والإدارية، وقد كانت لي مقالات مختلفة ومحاضرات ولقاءات كلها تناولت فيها هذا الأمر كغيري من طلبة العلم والكتاب والمفكرين، وفي هذا المقال سوف أتحدث عن نقاط ضرورية، بل عن مبادئ لا غنى عنها في العمل الجاد نحو التحصين، وبالرغم من ذكر هذه المبادئ كثيرا في مجالس العلماء وكتاباتهم إلا أنني أجد الحفاوة بها قليلة لدى سواهم من طلاب العلم والكتاب والمفكرين، ولهذا رأيت أهمية إفرادها في مثل هذا المقال مساهمة في إشاعتها وإعادة ترسيخها.

أولا: ترسيخ عقيدة التوحيد في النفوس، فليس هناك فكرة في الوجود يأمن معها القلب والعقل من الانحراف الفكري مثل عقيدة توحيد الله، عز وجل، وأعني بتوحيده -عز وجل- توحيده في ربوبيته والإقرار بانفراده -عز وجل- بالخلق والرزق والتدبير في هذا الكون (إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين). وتوحيده في ألوهيته، فلا معبود بحق إلا هو، ولا يصرف شيء من العبادة إلا له، سبحانه وتعالى: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بَعضُنَا بعضاً أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون). والعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، وهو أكثر عبادة ورد في القرآن الأمر بإفراد الله بها، والنهي عن صرفها لغيره، فلم يرد في القرآن النهي عن الصلاة لغير الله أو الزكاة أو الصوم أو الحج لغيره، بل ورد ذلك في الدعاء، واستمع لمثل قوله تعالى: (ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين)، (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين)، (فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين)، وأما بقية العبادات فقد جاء النهي عن الإشراك مع الله فيها أحدا على سبيل الإجمال كقوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله)، (إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألَّا تعبدوا إلا الله)، وتخصيص الدعاء بالأمر بإفراد الله به وبالنهي عن الإشراك فيه عائد -والله أعلم- إلى أربعة أمور: الأول: أن دعاء من دون الله هو معظم شرك الأمم السالفة، وهو غالب على غيرها من العبادات، بل إن صلاتهم كانت دعاء مجردا في الغالب. الثاني: علم الله -سبحانه- أن الأمم أول ما تُبتلى بالشرك، فإن الدعاء يكون هو المدخل له. الثالث: أنه دال على النهي عما فوقه من العبادات، ولا سيما أن معظم العبادات يدخل الدعاء فيها إما أصالة كالصلاة، حيث إن جميع أركانها لا تخلو منه، وإما تبعا كالصوم والنحر. الرابع: فضله على غيره بقوله صلى الله عليه وسلم (الدعاء مخ العبادة) و(الدعاء هو العبادة)، ومن توحيده عز وجل: توحيده في أسمائه وصفاته بإثباتهما له كما جاءت في كتاب الله تعالى أو سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- أو فيهما معا. فإن من لم يثبت أسماءه سبحانه أو صفاته أو نفى بعضهن أو فوض فيهن أو في بعضهن لم يستكمل حقيقة توحيد الله في ربوبيته أو ألوهيته، وسبب ذلك أن من نفى عن الله صفة فقد أثبت له عجزا، ومن أثبت العجز لله تعالى في شيء لم يكن مؤمنا حقا بكمال ألوهيته أو ربوبيته.

وقد يسأل سائل عن علاقة هذا التوحيد بالحصانة ضد التطرف والإرهاب؟

والجواب يكمن في قول الله تعالى: (والذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون)، فمن اختل عنده الإيمان بربوبيته أو ألوهيته أو أسمائه وصفاته سبحانه فقد لَبَس إيمانه بظلم، وهو الشرك بالله تعالى أو الانتقاص منه، عز وجل. وقد وعد الله من آمن ولم يلبس إيمانه بظلم بالأمن، وهو لفظ مطلق غير مقتصر الدلالة على أمن الآخرة، بل أمن الدنيا أيضا، يشهد لهذا قوله عز وجل (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض)، وقوله (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا)، فتضمنت الآية حكما قديرا وسُنَّة كونية بالأمن للمجتمع الذي يحقق التوحيد ويتخلص من الشرك ويتصف بالإيمان والعمل.

ثاني وسائل التحصين: إشاعة منهج الاستدلال الصحيح على مسائل العقيدة. وذلك أن الاستدلال الصحيح على مسائل العقيدة يمكن تلخيصه في نقاط، وحين نسبر الانحراف عن العقيدة نجد أنه لم يحصل إلا جراء ترك هذا المنهج، وغني عن التذكير أن أي انحراف أدى إلى التطرف والإرهاب إنما هو نتاج الانحراف عن منهج الاستدلال هذا.

1 - الرد إلى الله والرسول وذلك اتباعا لقوله تعالى: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كُنتُم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا)، (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون).

معتقد ابن آدم هو أصل دينه، وليس له مأخذ غير هذين المصدرين، فكل ما يتعلق بتوحيد الله تعالى وأركان الإيمان الستة التي ورد أربعة منها في قوله تعالى: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير)، ووردت كلها في حديث جِبْرِيل: (قال فأخبرني عن الإيمان قال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره)، لا يجوز أخذه من غير هذين المصدرين.

2 - رد المتشابه إلى المحكم فقد جلَّى الله -سبحانه وتعالى- انقسام القرآن الكريم إلى محكم ومتشابه، وبين عز وجل أن منهج أهل الباطل هو اتباع المتشابهات، أما أهل العلم فيردون المتشابه إلى المحكم (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذَّكر إلا أولوا الألباب).

3 - ولا بد أن يكون الرد وفق لغة العرب التي نزل بها القرآن، ولغة العرب كأي لغة من لغات العالم لها جانب خاص بمعاني الألفاظ وجانب يختص بمعاني الجمل، فأما جانب معاني الألفاظ فقد عُني بها علماء اللغة الذين اعتنوا بجمع كلمات اللغة والبحث في معانيها واشتقاقات تلك المعاني ومرادفاتها، وأما جانب معاني الجمل فقد اعتنت به طائفتان الأولى علماء النحو الذين اهتموا بإعراب الألفاظ في سياق الجملة، والطائفة الأخرى علماء أصول الفقه الذين اعتنوا بتنزيل دلالات الألفاظ اللغوية في سياقها الجملي، ولذلك اعتنوا بتقسيم الألفاظ إلى عام وخاص وحقيقة ومجاز ومجمل ومبين ومطلق ومقيد، إلى آخر ما صنعوا.

فالرد لا يكون إلا وفق القواعد التي تمليها تلك العلوم المتقدمة، وأي فهم لا يكون وفق تلك العلوم فهو فهم منحرف، سواء أدى إلى استنباط أحكام فقهية أم عقدية أم أخلاقية، وكذلك رد المتشابهات إلى المحكمات حين يكون على غير وفق تلك العلوم فإنه يكون فهما منحرفا.

ومن تتبع تاريخي وواقعي لكل الانحرافات المتطرفة نجد أنه ناشئ عن انحراف في الفهم وانحراف في الرد.

ثالث وسائل التحصين: نشر السيرة النبوية الصحيحة ودراسة فقهها استقلالا عن دراسة الفقه العام، فسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- هي نموذج الاستقامة الأعظم في الدنيا كلها، ومن خصائصها أنها تضمنت جوابا عن كثير من شبهات المنحرفين، فعلاقة النبي صلى الله عليه وسلم بالصحابة الكرام وزوجاته الطاهرات، ترد على الانحراف الكبير الذي يتم نشره اليوم حول مصادر التلقي التي يعد الصحابة الكرام هم طريقها الأول حين نريد توازنا فكريا.

كما يجيب تعامل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع الأحداث عن معيار الحكمة الصحيح في التعامل معها.

الرابع من وسائل التحصين: نشر تاريخ الصحابة الكرام والسلف الصالح من القرون الثلاثة بعد دراسته وتمحيصه ونقد مصادره نقدا علميا، فلا ريب إن كثيرا من الانحرافات المتطرفة جاءت نتيجة قراءة لتاريخ مكذوب على صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن بعدهم.

الخامس: وهو أول الوسائل العملية، تقريب الشباب من العلماء، وحث وسائل الإعلام على حفظ مقام العلماء وجنابهم، وذلك أن التطرف لا يمكن أن يكون مغريا للشباب إلا حينما يفتقرون إلى القدوة الصالحة، وبذلك نجد أن إسقاط القدوة الصالحة يعد من أول ما يتذرع به الدعاة إلى التطرف.