أكتب اليوم من ذاكرتي البعيدة والقريبة، وما تختزنه من المشاهد التي مرّ بها العالم العربي من حولنا منذ أكثر من 60 عاماً، وكأني أشاهد مسرحية من عدة فصول أو مشاهد، وكل مشهد من هذه المشاهد ما عدا المشهد الأخير ينتهي باختفاء أبطاله تماماً؛ لأنهم لا مكان لهم في المشهد الثاني، وإنما يظهر أبطال آخرون يصعدون على جثث سابقيهم، ويتسيدون المشهد الجديد، ويرقصون على إيقاعات صاخبة، ثم لا يلبثون أن يختفوا بالطريقة التي اختفى بها سابقوهم أو أشد.

ولعل أول هذه المشاهد وأفضلها وأقدرها على تأدية أدوارها بنوايا حسنة ذلك الذي لم نكن من حاضريه ولا من مشاهديه، وإنما عرفناه وخبرناه مما رواه لنا بقية باقية من ثقاة رجاله الذين عاصروه، وبعضهم شارك في أداء بعض أدواره، وأيضاً مما أدركناه ولمسناه بحواسنا من بقايا منجزاته الحضارية والعمرانية، وما تكشّف لنا من وثائق زمانه، ووصل إلى أيدينا من ميراث رجاله العلمي والأدبي والفكري والإبداعي.

ذلك المشهد الذي كان يوصف شخوصه بالرجعية والتخلف والعمالة للأجانب، هم الذين ناضلوا ضد الاستعمار، وهم الذين قاتلوا وقتلوا ونفوا وشردوا، هم عصر التنوير الذين تخلصوا من المستعمر الأوربي أو كادوا في مصر والشام والعراق والمغرب العربي، بعد أن ورثوا تقاليده الديموقراطية، وممارساته الحزبية والسياسية، وتداول السلطة على أسس ديموقراطية، واحترام الملكية الفردية، واقتصاد السوق، فبدأت في الأوطان بواكير نهضتها، وأنتجت العقول فيها فكراً وإبداعاً ونشاطاً اقتصادياً وتجارياً وصناعياً كان يمكن أن يكون أثره في بلدان ذلك المشهد شبيهاً بنظيره وندِّه في اليابان لو لم يقفل الستار، ويتغير الأبطال، والنصوص المسرحية التي شكلت المشهد التالي.

هذا المشهد -وهو المشهد الثاني- يتصف بالانقلابات العسكرية، وبحكم الجنرالات المستبدين والذي ابتدأه حسني الزعيم بانقلابه العسكري في سورية 1949، وكما هي عادة العسكريين الذين توارثوها من بعده، عمل حسني الزعيم على اعتقال رئيس الجمهورية المنتخب شكري القوتلي، ورئيس وزرائه خالد العظم، وحلّ البرلمان، وترقية نفسه إلى رتبة مشير، وانتخابه رئيساً للجمهورية في انتخابات صورية، بل إن هناك من حسن له مبايعته ملكاً على سورية، لولا أنه أطيح به بعد 4 أشهر من انقلابه في أغسطس 1949 على يد ضابط آخر هو سامي الحناوي، وهو بدوره أطيح به على يد العقيد أديب الشيشكلي، وهكذا تتابعت الانقلابات العسكرية في سورية حتى عهد حافظ الأسد وابنه بشار، وما لحق بالسوريين خلال هذا المشهد من الغبن والاستبداد اللذين أفضيا إلى ثورة شعبية لم يخمد أوارها على مدى 5 سنوات. وتبع انقلابات سورية انقلاب الضباط الأحرار في مصر 1952 ضد الملكية الدستورية، وضد حكومات زمانه المتعاقبة على السلطة على أسس حزبية ديموقراطية، وعلى اقتصاد مصر الحرّ، ونهضته الزراعية والتجارية والعمرانية التي رأينا شواهدها الباقية في مختلف المدن المصرية. ثم انقلابات العراق التي ابتدأها عبدالكريم قاسم ضد الملكية في يوليو 1954، وما تبعه من انقلابات عسكرية تتابعت على المشهد العراقي بين شيوعية، وقومية عربية وبعثية حتى مجيء صدام حسين عام 1979 بعد أن قام بحملة لتصفية معارضيه وخصومه، ففتح بمجيئه على نفسه وعلى بلده حروباً داخلية وخارجية لم تودِّ إلا إلى هلاكه وهلاك أسرته، وتدمير بلده، وإيقاف عجلة تنميته، وتجويع أهله وتشريدهم، وتكريس الفتن والطائفية، والنزاعات الاستقلالية والعرقية بين مكونات الشعب العراقي الذي كان في ظل الملكية من أكثر الشعوب تآلفاً وتآزراً وانسجاماً. ثم كان انقلاب عبدالله السلال على الإمام محمد البدر، وهو إمام تنويري كان يحمل نوايا حسنة تجاه شعبه، وكان ذا توجهات ديموقراطية، وانفتاح على محيطه العربي والإسلامي، وعلى مختلف دول الشرق والغرب، يليه انقلاب الضابط معمر القذافي على الملك الدستوري محمد بن إدريس السنوسي، ملك المملكة الليبية المتحدة في الفاتح من سبتمبر 1969، وما تابعناه في هذا المشهد من غطرسة العقيد القذافي وتجبّره، وخُيَلَائه فهو صاحب الكتاب الأخضر، وملك ملوك أفريقيا، وصاحب المبتدعات العجيبة والأطوار الغريبة. اتصف هذا المشهد في كثير من الأقطار التي اُبتليت به بالدكتاتورية والاستبداد والجبروت والقتل والسحل، وظلم الشعوب، وطغيان الآلة الإعلامية الكاذبة، والتمظهر بمظهر الحرية والاشتراكية والديموقراطية، وعدم الالتزام الديني، والدعوات إلى الوحدة العربية الزائفة، والمزايدة على دعم القضية الفلسطينية، وتحرير فلسطين، وأنه لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، ومن صفات هذا المشهد العداء السافر لدول الخليج العربية، واتهامها زوراً وبهتاناً بالرجعية والتخلف والعمالة للغرب، والإجماع على سبِّ أميركا في العلن، والتعامل معها في السر، وامتداح الاتحاد السوفيتي الذي كانوا يتقاطرون إلى زياراته، وتقديم الزهور إلى قبور ستالين ولينين ورفاقهما، والتغني بنضال تِشيْ جِيْفَارا، وباتريس لُوْمُوْمبا، وفِيْدِيْل كاسْتُرو، وجميع الثوار اليساريين في أفريقيا وأميركا اللاتينية والشرق الأقصى. إلا أن أبطال هذا المشهد ما لبثوا أن اختفوا تباعاً في ظروف مختلفة، وأقفل ستار هذه المرحلة على مآسٍ انعكست تباعاً على المشهد التالي.

أما المشهد الثالث فلم تتضح معالمه حتى هذه اللحظة، فمعظم شخوصه مختفون عن الأنظار، ونصوصه المسرحية مختلفة ومتداخلة وعصيّة على الفهم، ويطغى عليها خطاب الإسلام السياسي الذي ظهرت بواكيره الأولى على استحياء في المشهدين الأول والثاني، متمثلة في حزب التحرير، وجماعة الإخوان المسلمين، وفكرة إحياء الخلافة الإسلامية ردّاً على ظلم الجنرالات، وتعسفهم، وبعدهم عن الدين القويم، ثم ضُمَّت إليهم في هذا المشهد دماء جديدة عنيفة متمثلة في القاعدة وداعش وجبهة النصرة، والجهادية السلفية وغيرها، وأصبح المسرح يعج بمشاهد كثيرة منها في العراق: سنّة وشيعة وكرد وتركمان وأزيديون وآشوريون وداعش، وحكومة تتنازعها الطائفية، والأهواء الفردية. وفي سورية: حكومة طاغية وتنظيمات إرهابية ولعبة دولية لا يعرف خيوطها إلا الله سبحانه وتعالى. وفي ليبيا: إسلاميون داعشيون وغير داعشيين، و3 حكومات، وجيشان، وبرلمان شرعي خارج العاصمة، وأنفس تقتل، ومصافي نفط تحرق، وأدخنة تتصاعد لتحجب ما يجري تحت سماء ذلك القطر الذي مُسِخَت إرادة شعبه على مدى أكثر من 50 عاماً من الذل والمهانة والشطحات الجنونية.

وفي اليمن: حكومة شرعية وجيش وطني، وانقلابيون أمسكوا بجميع مقدرات الدولة لفرض سيطرتهم، لولا التدخل الحاسم لصد شرهم، ومجموعات مسلحة عنيفة في جنوب اليمن قوامها القاعدة وداعش وأنصار الشريعة تتربص بهم الدوائر، وتتهيأ للانقضاض على الجميع، لذلك فإن هذا المشهد غائم ومعتم، ولم تكتمل فصوله، ولم يسدل الستار عليه حتى الآن.