لم يكن ضم البروفيسور الروسي فيتالي نَعُومكين (ناؤمكين) إلى فريق مبعوث الأمم المتحدة الخاص بالأزمة السورية، وهو السويدي - الإيطالي ستافان دي ميستورا مفاجئا لي، ولا لكثيرين ممن يعرفونه، وذلك لأنه واحد من أعظم المستعربين الأوروبيين في وقتنا الحاضر، ومن أكثرهم إتقانا للغة العربية قراءة وكتابة وتحدثا.

وهو وإن كان تخصصه الدقيق بموجب رسالة الدكتوراه التي حصل عليها عام 1972 في مذهب أبي حامد الغزالي، إلا أنه أحاط بكثير من علوم العربية قديمها وحديثها، وتفاعل مع مختلف أحداث البلدان العربية التي طاف معظمها، وشارك في كثير من المؤتمرات والندوات العلمية التي عقدت على ترابها، وعمل أستاذا زائرا في بعض جامعاتها، يضاف إلى ذلك بحوثه العديدة حول قضايا العرب والإسلام التي زادت على 500 بحث، وخبرته التي جعلته من أكثر المستعربين المعاصرين ظهورا على شاشات التلفزيونات العربية معلقا على بعض الأحداث الساخنة، ومن ذلك دعوته بصفة معلق سياسي في فضائية أبوظبي في عامي 2001، 2002، وأيضا في قناة روسيا اليوم التي أنتج لها سلسلة من الأفلام بعنوان: روسيا والعالم العربي. وقبل ذلك عمل في المعهد العالي للعلوم الاجتماعية في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية من 1972-1977، وهناك أجرى تنقيبات أثرية لعدة مواسم في جزيرة سقطرة، وناقش رسالة دكتوراه أخرى عن تاريخ اليمن الجنوبي أسماها: النضال المسلح من أجل استقلال اليمن الجنوبي بقيادة الجبهة الشعبية. وقد نشرت تلك الرسالة في عام 2004. وتقلّب البروفيسور فيتالي في عدة مناصب أكاديمية آخرها فوزه بمنصب مدير معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم الروسية.

وإلى جانب مناصبه الأكاديمية عمل فيتالي عضوا في المجلس العلمي في وزارة الخارجية الروسية، وعضوا في المجلس العلمي للأمن القومي الروسي، وعضوا في المجلس العلمي الاستشاري في وزارة العدل الروسية الخاص بدراسة المواد الإعلامية ذات المضمون الإسلامي، والتحق في عام 2006 بالمجموعة الرفيعة المستوى لهيئة الأمم المتحدة "ائتلاف الحضارات". وفي عام 2008 عينه السكرتير العام للأمم المتحدة سفيرا للنوايا الحسنة عن طريق ائتلاف الحضارات.

كل تلك القدرات والمؤهلات والخبرات الطويلة بشؤون العالم العربي جعلته بحق وحقيقة من أكفأ من يُرشح لمهمة سياسية في البلدان العربية؛ لكونه من أعرف الناس بلغتها وثقافتها ومجتمعها وأحوالها السياسية، وعلى الرغم مما أوردته من معلومات عن البروفيسور فيتالي فإن من الواجب عليَّ أن أعترف بأنني لا أعرف شيئا عن توجهاته السياسية، وانتماءاته الحزبية، وما إذا كان سينحاز إلى هذا الطرف أو ذاك. إلا أنه في المجال العلمي، وفي حدود المرات القليلة التي التقيت به في مؤتمرات وندوات دولية عرفت فيه صدقه وصراحته وموضوعيته، فقد كان أول لقاء لي بالبروفيسور فيتالي في الكويت حينما استضافت دار الآثار الإسلامية معرضا لمتحف الهرميتاج المشهور بمدينة لينين جراد السوفيتية حينذاك (بطرس بيرج حاليا)، وعقدت على هامش المعرض ندوة علمية حضرها عدد كبير من العلماء الروس، وفيها ألقى فيتالي محاضرة عرض فيها عددا من شواهد القبور المنقوشة بخطوط عربية على مستوى عال من الجودة والإتقان. وحينما سألته عن الزمن الذي توقف فيه استخدام الحرف العربي في بلاده أجاب بوضوح تام بأنه توقف مع الثورة البلشفية الماركسية التي اتهمها أمام الأشهاد بإلغاء استخدام الخط العربي على الرغم من أن الاتحاد السوفيتي كان لا يزال قائما، وكان هو جزءا من الرسمية.

واستدركت عليه مرة أخرى في بحث له ألقاه في ندوة الدراسات العربية التي تعقد كل عام في لندن، وكان موضوع بحثه عن قضية غير أخلاقية قال عنها إنها كانت شائعة في أحد أقاليم اليمن الجنوبي، وسألته ما إذا كانت هذه المعلومات التي أوردها موثقة أم أنها مبنية على إشاعات، فأجاب بكل شجاعة قائلا: إنها مبنية على إشاعات غير موثقة، ولكنها رائجة، واستدركت في الندوة نفسها بحضوره على زميل آخر له من جنسيته كان ضمن الفريق العلمي الذي ينقب معه عن الآثار في جزيرة سقطرة لإيراده خريطة عن اليمن كان خط الحدود الشمالي فيها يتجاوز الحدود الدولية بين المملكة العربية السعودية واليمن إلى العمق الجغرافي للمملكة، فاعتذر مني بكل شجاعة، وعالج هذا الخطأ في بحثه الذي طالعته منشورا في حصاد الندوة المذكورة في العام التالي. وشارك البروفيسور فيتالي قبل عدة سنوات في ندوة الحرس الوطني التي يقيمها في الرياض متزامنة مع مهرجان الجنادرية بناء على ترشيحي له بصفتي -حينذاك- عضوا في لجنة المشورة الثقافية للمهرجان، وكنت أنا رئيس الجلسة، وهو جالس عن يساري في المنصة، وأثناء النقاش وصلتني قصاصة من أحد الأدباء السعوديين المعروفين، وفيها لمز وغمز على روسيا الاتحادية، وانتقاد مباشر لشخصه، فأطلعته على محتوى الورقة، فقرأها وقال: هو محق في بعضها، وجانبه الصواب في أخرى، وأنا على استعداد للإجابة عنها، ولكنني احتفظت بها، ولم أطلب منه الإجابة عنها حينما وصله الدور، لأنه ضيف، والمملكة من عادتها ألا تقابل ضيوفها إلا بما يسرهم.

وأعود بعد هذا السرد التاريخي لأقول: لا يعلم الغيب إلا الله، سبحانه وتعالى، إلا أن كفاءة الرجل ومقدرته وخبرته بالعالم العربي وصدقه وصراحته، وموضوعيته في طرحه العلمي لعلها مما يجعل وجوده في الفريق عاملا مساعدا على إنجاح مبعوث الأمم المتحدة السيد ستافان دي ميستورا في جهوده الرامية إلى حلحلة الأزمة السورية، والوصول بها إلى حل لها يخلصها من طغيان بشار الأسد، ويضع حدا للاقتتال والخراب والدمار والتهجير الذي لحق بسورية، خصوصا قد كان البروفيسور فيتالي نعومكين وسيطا ومنسقا بين وفدي الحكومة والمعارضة، فيما تم من اجتماعات سابقة في موسكو، وإن كان نجاحه من عدمه مرتبطا بالجانب الروسي الذي يمثله، ومدى قدرته في الضغط على بشار الأسد ونظامه.