الجمالة والكرم سجيتان متأصلتان في النفس البشرية عند غالب الناس إلا من شاء الله، فأنت حينما تكرم شخصاً في بيتك فإنك لا تكرم ذلك الشخص وحسب بقدر ما تكرم بيتك، وحينما تتجمّل فيه فإنما تجمّل نفسك، وترضي ذاتك، وتشعر بسعادة غامرة لا يشعر بها إلا من جبل على التجمل. والمملكة العربية السعودية التي هي منبع العروبة، وقلبها النابض، ومعدن الكرم العربي الأصيل -ناهيك عن مكانتها الدينية- قد جبلت على ذلك النوع من السجايا والمُثُل الحميدة منذ عهد مؤسسها الملك عبدالعزيز رحمه الله، فقد كانت المملكة ملجأً وحصنا حصينًا لكل من لجأ إليها من الزعماء العرب، ومنهم من كان مطلوباً من الدول المستعمرة لبلادهم، فوجدوا الأمان في المملكة رغم ضغوط القوى الاستعمارية عليها -حينذاك- وتهديدها في أمنها ومصالحها من تلك الدول، وبعضها كانت ترتبط معها المملكة بمعاهدات واتفاقيات كبريطانيا التي طالبت الملك عبدالعزيز بتسليمها رشيد عالي الكيلاني المحكوم عليه بالإعدام من قبل حكومة العراق ومستعمرتها بريطانيا بسبب تزعمه ثورة عسكرية قام بها عدد من الضباط العراقيين أثناء الحرب العالمية الثانية، ولكن الملك عبدالعزيز (رحمه الله) رفض بإصرار شديد تسليم رشيد الكيلاني لبريطانيا لكونه دخل بيته، واستجار به، فقدّرت بريطانيا هذا الموقف النبيل من الملك عبدالعزيز، وغضّت الطرف عنه. وظل رشيد عالي الكيلاني مكرماً معززاً في حماية الملك عبدالعزيز.

ومن جهة أخرى، كلنا نعرف مواقف المملكة في حرب فلسطين، واستشهاد عدد كبير من أبناء الوطن دفاعاً عن أرضها المغتصبة من قوى الصهيونية، بل إن الملك عبدالعزيز (رحمه الله) فتح بلاده لكل من قدم إليها من الفلسطينيين، وخاطب أمراء المناطق الشمالية بتوظيفهم، ومعاملتهم على قدم المساواة مع أبناء الوطن في وظائف الدولة المختلفة، طبقاً لما ورد في عدد من الوثائق التي عُثر عليها في تبوك والقريات وأيضا بشهادة الرحالة النمساوي (ماكس رايس) الذي التقى ببعض الموظفين الفلسطينيين الرسميين أثناء زيارته لعرعر في مطلع الخمسينيات الميلادية.

وليس ببعيد عن ذاكرتنا مواقف المملكة في حروب 56، 67، 73، وحروب لبنان الداخلية، والحرب الإيرانية العراقية التي لولا الله ثم المملكة ودول مجلس التعاون الخليجي ما خرج منها صدام حسين سالماً، وليس بعيداً عن ذاكرتنا في تلك الحرب لجنة المساعي الحميدة التي كانت تطوف العالم لجلب التأييد والمؤازرة لموقف العراقيين في تلك الحروب، وإنفاق الأموال الطائلة على شراء السلاح لصالح العراق، والنتيجة احتلال الكويت! وإمْطَار الرياض والمنطقة الشرقية بوابل من صواريخ سكود البعيدة المدى! وتهديد باقي دول مجلس التعاون في سيادتها، ودعوة إيران عدو الأمس إلى توقيع اتفاقية تحديد الجرف القاري بينهما في الخليج العربي بطول 800 كيلومتر من البصرة إلى مضيق هرمز متناسياً ومتجاهلاً أن هذا الامتداد تحكمه دول ذات سيادة! ولكنها النوايا الشريرة والخبيثة التي سوّلت له ولرجاله احتلال جميع تلك الدول، وحتى اليوم لا تزال بعض الشخصيات العراقية –الموالية لطهران- تناصب المملكة العداء على الرغم من العون الكبير الذي قدمته الرياض ودول مجلس التعاون للعراق في السنوات الأخيرة.

أما لبنان فقدر للمملكة أن تكون حاضرة في الشأن اللبناني.. منغمسة في تناقضاته ومشكلاته.. متحمّلة أعباء عدة وتبعات كثيرة في سبيل استقراره، ومنها قيامها بعدد من المساعي الحميدة التي اضطلعت بها لإصلاح الشأن اللبناني بمختلف طوائفه ومذاهبه، منها مؤتمر الطائف الذي أنهى حرباً ضروسًا بين اللبنانيين أكلت الأخضر واليابس، وأخرت بلدهم الذي كان يعيش نهضة اقتصادية لا مثيل لها في العالم العربي سنين إلى الوراء، وأعاقت تقدمه، وهبطت بعملته التي كانت في مصاف العملات الصعبة إلى أسفل سافلين، ثم كيف أن الأمور استقامت في لبنان بعد مؤتمر الطائف، وتتابع عليه اختيار الرؤساء بسهولة ويسر من رينيه معوض مروراً بالهراوي ولحود إلى ميشيل سليمان، وعادت الحياة والأمن والاستثمارات الخليجية والسياحة إلى سابق عهدها في لبنان، وبدا كل شيء على ما يرام لولا الانتكاسة التي أصيب بها في السنوات الأخيرة بسبب انحياز (حزب الله) الكامل والأعمى إلى إيران، وتدخله في سورية لصالح بشار الأسد ونظامه، والمساهمة في إعاقة انتخاب رئيس جمهورية لبنان الذي يعيش الآن فراغاً دستورياً لما يقرب من سنتين، وموقفه العدائي المكشوف من دول مجلس التعاون الخليجي وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، والنيل منها في السر والعلن، وانحيازه الفاضح إلى كل ناعق على المملكة وضدها، وعدم وجود رادع يردعه في لبنان وخارجه، وميوعة مواقف كثير من الزعماء اللبنانيين من غير حزبه، فكان لا بد من تغليب مبدأ السياسة على مبدأ العواطف، وهو عرف دولي لا غبار عليه؛ لأنك حينما تعطي ترجو ما يقابل عطاءك عند تبيان المواقف، ولو بالكلام المباح. ومن هنا كان ذلك القرار الشجاع الحازم القاضي بإيقاف تلك الهبة بوضوح تام، وتلويح بإجراءات لاحقة، ومواقف شجاعة مؤيدة وداعمة من قبل دول مجلس التعاون الخليجي مما يدعونا إلى الاعتقاد بأن ذلك القرار الشجاع والحازم ما هو إلا رسالة واضحة وشجاعة إلى أولئك المتمصلحين من أشقائنا العرب الذين كثيراً ما يقابلون معروفنا بالجحود والنكران، وهم لا يدركون كُنْه طيبتنا، وصفاء قلوبنا، وتعالينا على الأحقاد، وتناسينا الإساءات، ويظنون أننا حينما نتسامح فإن ذلك يعني أننا بلا ذاكرة، وأنه من السهل الضحك علينا، وما دروا أننا نعي ما يحدث، ونوازن المواقف ونحسبها ونقوّمها ونعرف متى نعطي ومتى نمنع!!