يكشف الموقف المخيب للآمال لوزير الخارجية اللبناني جبران باسيل، بامتناعه عن التصويت على القرار الذي أصدره وزراء الخارجية العرب في ختام اجتماعهم الطارئ في القاهرة، حول دعم السعودية في مواجهة إيران، عن توغل الذراع الإيرانية في لبنان إلى حد لم يجعل الرجل يخجل وهو يقول: "لقد تشعب الموضوع إلى أكثر من ذلك.. الاشتباك الإيراني - السعودي والاشتباك الكبير في المنطقة أدخلانا في أمور ثانية. فلبنان أخذ قراره الحكومي في الابتعاد عن هذه المشاكل، واعتماد سياسة النأي بلبنان عن هذه الأزمات".

ويبقى السؤال: ولماذا لم تنأ المملكة بنفسها عن مشاكل لبنان منذ عقود، رغم أن هذا كلفنا كثيرا من الجهد والمال؟ لماذا كنا نعد أزمات لبنان أزمتنا الشخصية ونسعى إلى وضع حلول لها طوال الوقت ونضعها في صدارة أولوياتنا؟

إن تبرير وزير الخارجية اللبناني لا يقل غرابة وخذلانا عن امتناعه عن التصويت. وليت الرجل قال إنه يتحدث باسم حزب الله وأراح واستراح، فهذه الأسباب المكشوفة لا تليق بمتحدث باسم لبنان، لبنان الشقيقة التي أصبحت خارجيتها تحت السيطرة الإيرانية التامة على ما يبدو بعد هذا التصريح المخجل، في ظل ما تكتنز به الذاكرة من وقفات للمملكة مع هذا البلد الشقيق.

فبعض ما تجود به الذاكرة من مواقف عابرة يستدعي تاريخا من الوقفات الكبيرة للمملكة بجوار الشعب اللبناني الشقيق، إذ يحضرني شخصيا حين كنت على رأس العمل وزيرا للصحة، توجيه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود -رحمه الله- بأن أرسل كل ما يحتاجه الشعب اللبناني من معونة طبية ومستشفيات متنقلة أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان، العدوان الذي شهد أيضا توجيهه -رحمه الله- بمساعدة لبنان بمبلغ 500 مليون دولار لإعادة الإعمار ومليار دولار وديعة في مصرف لبنان المركزي، بالإضافة إلى البيان الذي صدر عن الديوان الملكي آنذاك، والذي يحدد موقف المملكة العربية السعودية من العدوان ووقوفها قيادة وحكومة وشعبا إلى جانب لبنان بالقول والفعل في شتى الظروف.

أما موقف المملكة من الصراعات الداخلية في لبنان فتسجل صفحات ذهبية من الوقفات الأخوية التاريخية الجادة، فلطالما كان الدور السعودي في القضية اللبنانية مركزيا ومستمرا، ذلك أن الجهود السعودية لوقف القتال في لبنان ومحاولاتها تحقيق الوفاق الوطني وتسوية الصراع اللبناني، لم تكن مؤقتة أو مرحلية، بل رافقت الحرب اللبنانية منذ بدايتها في أبريل 1975، واستمرت طوال الحرب اللبنانية حتى حالفها النجاح في الطائف.

وهناك الاستمرارية التي تميز بها الدور السعودي في محاولاته تسوية الصراع اللبناني وتحقيق الوفاق الوطني وإعادته، وقد ارتكز كل ذلك على اهتمام المملكة بالقضية اللبنانية، من خلال قائمة من الجهود والمقترحات السعودية الهادفة إلى تسوية الصراع اللبناني.

ففي الفترة من 16 إلى 18 أكتوبر 1976 وبمبادرة سعودية ـ كويتية، انعقد مؤتمر قمة سداسي في الرياض، شارك فيه زعماء المملكة ومصر وسورية والكويت ولبنان، بالإضافة إلى منظمة التحرير الفلسطينية، وكان الهدف المباشر للمؤتمر معالجة أحداث القتال الجارية في لبنان بين اللبنانيين أنفسهم وبين بعض اللبنانيين والفلسطينيين، وعقب ذلك عقد مؤتمر الحوار الوطني الأول في جنيف في الفترة من 31 أكتوبر إلى 4 نوفمبر 1983، وشارك في أعمال المؤتمر وزير الدولة عضو مجلس الوزراء السعودي الشيخ محمد إبراهيم مسعود مراقبا، ويعكس قول الرئيس اللبناني في تلك الفترة أمين الجميل في إحدى جلسات المؤتمر دور الملك فهد الكبير في الدعوة إلى هذا المؤتمر ورعايته له، قال الرئيس اللبناني: "نكرر شكرنا للملك فهد راعي هذا المؤتمر، ونأمل أن نكون عند حسن ظنه".

وبرعاية وجهود الملك فهد -رحمه الله- شهدت السعودية وقائع مؤتمر الطائف الذي عقد في الفترة من 30 سبتمبر إلى 22 أكتوبر 1989، وعلى عكس مؤتمري الحوار الوطني، فقد نجح، وفي ظل دور سعودي كبير، في التوصل إلى اتفاق حول عدد من الإصلاحات في النظام السياسي اللبناني وعلى تأكيد هوية لبنان العربية، وقبل هذا وذاك وقف الحرب الأهلية في لبنان.

وتتمثل الوقفة الكبرى مؤخرا في خطة دعم وتسليح الجيش اللبناني التي أعلن عنها الملك عبدالله -رحمه الله- بقيمة 3 مليارات دولار أميركي، والتي أصبحت قيد التنفيذ، بعد توقيع الجانب الفرنسي على عقود تصدير الأسلحة إلى لبنان، ومن شأن مثل هذا الدعم وقف تهجمات غير مسؤولة من بعض المتطرفين. ولقد مكن الدعم السعودي الجيش من ضبط السيارات المفخخة، وكشف عوامل التفجير، وأبعد الفتنة التي كادت تقع بين السنة والشيعة في لبنان، من جراء مواقف بعض المتطرفين من الجانبين.

لا أعرف حقيقة أين وزير خارجية لبنان من هذا كله؟ لا أظن رجلا في موقعه لم يسمع بهذا التاريخ الطويل من الوقفات السعودية إلى جانب بلاده، ولا أظنه يجهل أن المملكة كانت أكبر داعم لبلاده في المنطقة، ولعل الرجل الآن بهذا التصريح عينه على داعم جديد، فلسان حال الرجل والحال تلك تدعونا إلى أن نفتش عن إيران في التفاصيل.