بثت "واس"، تقريرا ممتازا عن تراثنا الوطني بمناسبة مرور 15 عاما على تأسيس هيئة السياحة والتراث الوطني في المملكة، وهو تقرير يحمل بُعدا كبيرا للتطور والتوسع الذي وصلت إليه جهود الدولة في العناية بالتراث الوطني.
تأملت ذلك فعادت بي الذاكرة إلى ما قبل 45 عاما، حينما كانت الآثار في غرفة صغيرة بمعهد العاصمة النموذجي بالرياض، وكانت عبارة عن قطع أثرية قليلة ومكدسة في فوضى واضحة تفتقر إلى العرض والترتيب، وكانت الآثار آنذاك تابعة لوزارة المعارف، وكانت مسؤوليتها مناطة بموظف واحد هو ــ إن لم تخني الذاكرة ــ عوض الشملان (رحمه الله) الذي أصبح بعدها أمينا للمتحف الوطني بعد انتقال الآثار إلى مقرها القديم بشارع الإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود، المعروف شعبيا بشارع العصارات. وانضم إلى الآثار موظفان متخصصان: عبدالرحمن البراهيم وابن عمه محمد البراهيم، ثم عبدالله الهدلق (رحمه الله)، وكان إداريا. ومنذ ذلك الوقت بدأت الآثار تسلك مسلكها الجاد، خصوصا بعد صدور نظام الآثار عام 1392، وتشكيل المجلس الأعلى للآثار، وإسناد إدارتها إلى شاب متخصص هو الدكتور عبدالله المصري، العائد للتو من أرقى الجامعات الأميركية، وأصبح جهاز الآثار والمتاحف إدارة عامة في وزارة المعارف فيما بعد ثم وزارة التعليم حاليا، وتوسعت الإدارة في ابتعاث عدد من الشباب السعودي إلى الغرب، واُفتتح قسم للآثار والمتاحف بجامعة الملك سعود، الذي أسهم بفاعلية في العمل الأثري والبحثي في المملكة بفتح حفريتين للتنقيب عن الآثار في موقع الفاو التابعة للرياض، وموقع الربذة التابعة للمدينة المنورة. ومن خلال خريجي القسم المدربين تدريبا جيدا في الحفريتين المذكورتين، أمكن إمداد الإدارة بكفاءات مؤهلة من أبناء الوطن أسهموا في المسح الأثري الشامل للمملكة، الذي نُشرت تقاريره الأولية في مجلة أطلال. وتُعد هذه المجلة من أهم المصادر التي لا يستغني عنها أي باحث في حقل الآثار بالمملكة. وشهدت هذه الفترة بناء خمسة متاحف إقليمية في الأحساء والجوف وتيماء ونجران وجازان بهدف عرض المكتشفات الأثرية في كل منطقة، ولا تزال هذه المتاحف تقوم بدورها حتى اليوم، وتمضي السنون، فترتقي الإدارة العامة للآثار والمتاحف بوزارة المعارف إلى وكالة مساعدة، ثم إلى وكالة، تقلب على كرسيها بعد الدكتور عبدالله المصري، الدكتور عبدالله أبو راس، فالدكتور حامد أبو درك، ثم الأستاذ الدكتور سعد الراشد الأكاديمي البارز الذي استقطبه وزير المعارف الدكتور محمد أحمد الرشيد (رحمه الله) من جامعة الملك سعود، ثم الدكتور علي المغنم وهو من الآثاريين المخضرمين. ويعود الفضل بعد الله إلى الدكتور سعد الراشد الذي استطاع أن يفرض تقبل الآثار بشكل واضح على مسيري وزارة المعارف، واستطاع أن يحقق منجزات تذكر في مجال النشر العلمي، وفي بدء التعاون مع بعض البعثات الأجنبية في التنقيب، وكذا بدء العمل في تحديث نظام الآثار والمتاحف، وإصدار سلسلة آثار المملكة المكونة من 13 مجلدا، بتمويل من رجل المكرمات الأمير سلطان بن عبدالعزيز (رحمه الله)، وعقد ندوة رعاها الأمير نايف بن عبدالعزيز (رحمه الله)، بعنوان "آثار المملكة العربية السعودية: حمايتها والمحافظة عليها"، صدرت مداولاتها في مجلدين يحملان عنوان الندوة نفسه.
ومن حسن حظنا أن تراثنا شهد نقلة حينما ضُمت الآثار إلى الهيئة العليا للسياحة في 28 ذي الحجة عام 1428 لتصبح الهيئة العامة للسياحة والآثار التي تحول مسماها إلى الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني بمقتضى قرار مجلس الوزراء الأخير. ومنذ ذلك التاريخ حققت الهيئة نقلة تمثلت في مشاركة عدد من الجهات الحكومية، ونخبة من المثقفين لوضع رؤية للعناية بالتراث الوطني من حيث الاهتمام به وحمايته وتوثيقه، واستعادته من الأيدي التي وصل إليها بطرق غير مشروعة، حيث بلغ مجموع ما استرد منه 17 ألف قطعة أثرية من داخل المملكة، وأكثر من 30 ألف قطعة من خارجها بعد أن كان قد مضى على اختفائها أكثر من 50 عاما. وتسجيل بعض المواقع الأثرية في قائمة التراث العالمي باليونيسكو، حيث سُجل منها حتى الآن أربعة مواقع هي: مدائن صالح، والدرعية التاريخية، وجدة التاريخية، ونقوش جبة والشويس بمنطقة حائل، وصدور نظام الآثار والمتاحف والتراث العمراني، وهو من أحدث أنظمة الآثار على مستوى عالمي، واستطاع رئيس الهيئة الأمير سلطان بن سلمان، والفريق العامل معه وعلى رأسهم الدكتور الغبان، ومعاونه الدكتور حسين أبوالحسن أن ينفث في روح الآثار عزيمة وهمة عالية من لدن سموه الكريم، وأن يضع منهجا جديدا يتمثل في إخراج الآثار من حفرة الآثار كما يقول في كثير من المناسبات، وأن يقربها إلى مفاهيم الناس.
وعملت الهيئة عام 1432 على إنشاء "سجل الآثار الوطنية" الذي يضم حتى الآن أكثر من 7270 موقعا أثريا، وتدير الهيئة 34 بعثة أثرية بين سعودية ودولية مشتركة في المواقع الأثرية مع بعثات عدة دول لها باع طويل في التنقيب عن الآثار من كل من أوروبا وأميركا واليابان. وامتدت عملية التطوير في قطاع الآثار إلى ربط المتاحف بالمسارات والأنشطة السياحية في مختلف مناطق المملكة؛ فقامت بترميم عدد من المباني والقصور التاريخية وتحويلها إلى متاحف، وأنشأت متاحف جديدة في مختلف مناطق المملكة ومحافظاتها، وتقوم الهيئة بدعم المتاحف الخاصة حتى تتمكن من مزاولة نشاطها المتحفي، واستقبال زائريها، فرخصت لـ31 متحفا في أنحاء المملكة مما تنطبق عليها المعايير والضوابط، وأقامت لأصحاب المتاحف الخاصة ملتقى كل سنتين، ونظمت لهم رحلات خارجية للوقوف على تجارب الدول.
وهكذا نلحظ أن قطاع الآثار والمتاحف بعد انضمامه للهيئة العامة للسياحة حقق قفزات واسعة في زمن لا يتجاوز ثماني سنوات من تاريخ انضمامه إليها.