أتذكر، ولعلكم تتذكرون معي، حين كانت بلادنا تواجه مد الإرهاب القاعدي مطلع هذا القرن الميلادي، قبل أن يتمكن أبطال أمننا المخلصون من دحره، وضربه في مقتل، وكسر شوكته؛ كيف كان الجميع يطالبون بمراجعات فكرية لكثير من الأفكار الدموية التي كان دعاة الموت يستدرجون بها الشبان حدثاء الأسنان، ويسوقونهم سوقاً إلى التهلكة، ويصنعون منهم قنابل موقوتة تنفجر في وجوه أهلهم وأوطانهم.

كانت الدعوة إلى مراجعات فكرية لمناقشة أباطيل دعاة الإرهاب ومنظريه، لكن بعد ظهور الإرهاب من جديد، بوجهه الداعشي القبيح المثير للغثيان من هول ما يتعمد المنتمون إليه ارتكابه من فظاعات، أتصور أننا في حاجة إلى مراجعات من نوع جديد، مراجعات لمنطق تفكير قطاع غير يسير منا، تهدف إلى تكوين وجهة نظر سليمة أو إطلاق حكم صائب، لا تقتصر على قضايا عامة وخطيرة كالإرهاب، بل على أي قضايا يثار حولها الجدل.

إن وجود متعاطفين بيننا مع هذا الكيان المتجرد من الإنسانية الذي يدعى "داعش"، وحديث بعض المتشددين بيننا عن أنهم "أهل سنة" وأنه لا ينبغي أن ننصر أحداً عليهم، حديث ينضح طائفية وعنصرية وغلّاً، ففضلاً عن أن المشاركة في تغذية فكرة الاحتراب الطائفي -حتى إن كان الحديث عن معركة تدور خارج حدودنا- فكرة مريضة؛ لأن إقرارنا إياها في الخارج سيمتد ويتداعى طبيعياً لإقرارنا إياها في الداخل، نجد أن هذا الحديث يعني أن عدونا يفرض علينا منطقه الملتوي في التفكير، ويجعل القتال سبيلا لا بديل عنه لنخوض في خلافاتنا المذهبية، فدولة الملالي في إيران ترتدي لشيعة العالم عباءة التشيع، وتلبس لهم وجها طائفيا تدغدغ به مشاعرهم مدعية أنها حاميتهم، في حين أن أهدافها عرقية بامتياز، فهي تدعي أنها راعية الشيعة، وأنهم في خطر بين إخوتهم أهل السنة في البلدان الأخرى، لا سيما السعودية التي تسعى إيران إلى صناعة القلاقل حولها، وداخلها، بهذا النهج التحريضي، فإن كان بعض المتطرفين من ملالي إيران يغذون مشاعر العدوان لدى إخوتنا أهل المذهب الشيعي، فلا ينبغي لنا أن ننجر إلى مثل هذا المستوى الفاسد والمخيف من التفكير، والاعتقاد بجواز قتل الآخر المختلف معنا في المذهب، حتى وإن لم يكن سعوديا، وإلا فما الفرق بيننا وبين أمثال هؤلاء المتشددين إذا كنا نقر الشيء نفسه!

إن قتال المسلم أيا كان لا يجوز إلا لإقامة حد، أو نهي فئة باغية عن البغي، كما هو في المشهد اليمني، فنحن لا نقاتل الحوثي لأنه شيعي، بل لأنه باغ أثيم خارج على القانون والشرعية، وإلا فالزيدية في اليمن جيران تاريخيون نعيش معهم في أمان منذ قرون.

وفي المقابل، وعملاً بالمبدأ نفسه، فلا ينبغي لنا أن ننصر أحداً فقط لأنه سني، حتى إن كان خارجيا باغيا، يقتل على الهوية ويكفر الناس بالجملة، وإن كنت لا أعرف ما علاقة ما يقترفه عناصر التنظيم الإرهابي الخارجي المدعو "داعش" بالسنة النبوية المطهرة، عليها وعلى صاحبها الرحمة المهداة أفضل الصلاة وأتم التسليم.

أيضاً حديث متعاطفين بيننا مع هذه الكائنات المصابة بسعار الدم عن أنهم مسلمون، وأنه لا ينبغي أن نستعين بغير المسلمين عليهم أو نرضى بقتلهم على أيديهم، حديث ندفع ثمنه الآن غالياً، بعدما رضي هؤلاء بقتلنا، وأفتوا بتفجيرنا، وبايعوا عليه مراهقينا. فأصبح هؤلاء يفجروننا هنا في بلادنا وينحروننا من الوريد إلى الوريد، بعد تكفيرنا بالطبع، فأين المتعاطفون معهم من قبل؟ أين هؤلاء الذين يحيدون عقولهم ويحكمون على كل شيء بعاطفتهم بعدما أصبحنا في مرمى نيران هذه الفئات الضالة؟

ولا أعرف حقيقة هل سأل أحد نفسه من هؤلاء المتعاطفون مع المتشددين الذين يعيشون بيننا: من الذي يفتي لـ"داعش" وأمثاله من التنظيمات الأخرى؟ هل استبدل فتاوى هؤلاء المشبوهين بفتاوى علماء البلد الحرام؟ كيف يطمئن إخوتنا المتعاطفون إلى فتوى حفنة من المرضى الجهال الذين لا مرجعية علمية معتبرة لهم؟ إن المرء لا يطمئن إلى فتوى في شأن بسيط مصدرها مجهول الهوية فكيف نطمئن إليهم في فتاوى يخوض مفتوها في دماء العباد خوضاً، ويجيزون التنكيل بهم، والتفنن في إخراج مشاهد القتل التلفزيونية التي جلس العالم كله يشاهدها وهو يستشيط غضباً من هذا الدين الذي يأمر أهله بقتل الناس على هذا النحو، في وقت تشرع فيه القوانين في الخارج لحماية حقوق الحيوان وتُبتنى المؤسسات لرعايته.

لقد صدّر هؤلاء القتلة السفاحون للعالم، وما زالوا يصدرون، صورة دموية عن الإسلام، ونالوا من روحه السمحة ما لم ينله منها أعداؤه على مر التاريخ، وقدموا لهم فرصة ذهبية للطعن فيه، ودس المزيد من الأكاذيب على تاريخه، مستشهدين بجرائم هذه الكائنات المسعورة التي نشاهد بأعيننا كيف يستغل القائمون على الحملات المناهضة للإسلام وجودها ليحرضوا الناس على المسلمين في بلادهم، ويضيقوا عليهم، ويجعلوا من اعتناق الإسلام خياراً غير محمود العواقب لمن يقدم عليه في هذه البلدان، بعدما أصبح كل ما هو إسلامي مدعاة للشك والريبة، في ظل ما يتعرض له العالم من اعتداءات على الأبرياء مقترفوها مسلمون.

وبعد هذه الصورة بالغة القتامة التي أوصلنا إليها هؤلاء لا تزال تجد بيننا من يتعاطفون معهم بدعوى أنهم مسلمون وأهل سنة!! فهل أصبح بوسع أي مجرم مارق في هذا العالم أن يحظى بتعاطف البعض منا فقط لأنه يتحدث باسم الدين؟ أو لأنه يدعي زوراً وبهتاناً أنه مسلم أو سني، حتى إن كان آثماً معتدياً؟! هل أصبحنا نتعاطف مع كل من يلبس لنا عباءة الإسلام والسنة وإن كان سفاحا ويتوارى خلف راية لا نشك في أنها راية الخوارج؟! وإلا فمن الخوارج إذن؟ نحن مثلاً؟