لم تكد تفجيرات الضاحية الجنوبية في بيروت تأخذ حظاً من النقاش الإعلامي يوم الخميس الماضي حتى اندلعت الانفجارات المتزامنة في باريس لينشغل الإعلام بالثانية عن الأولى، وغلب دوي انفجارات باريس على دوي انفجارات بيروت.

وأثناء دوي ما وقع في فرنسا وقعت تفجيرات جنوب تركيا التي تبناها داعش مساء السبت قرب افتتاح دورة قمة العشرين هناك، وأيضا تبناها داعش.

ولم يكد خبر أي من هذه الحوادث يصل إلى العالم حتى تبعه نبأ تبني داعش له كما هي عادة التنظيمات التكفيرية في تبني أحداث التفجير، دون أن تُقَدِّم دليلاً حتى ساعة كتابة المقال على دعواها التي لا يختلف الأمر كثيراً بين ما إذا صدقت فيها أو كذبت، فردة الفعل الإيرانية أو الأوروبية بل الدولية لن تختلف كثيراً، أو قل: لن تختلف أبداً لو صحت رواية داعش أو لم تصح.

ففي كثير من الأحيان لا يعلم التنظيم بهذا الحادث إلا بعد وقوعه، ويُقْدِم على تبنيه لأسباب دعائية أو للتغطية على جهات استخبارية هي صاحبة التدبير الحقيقي للجريمة، ومع ذلك فإن أصابع الاتهام لا ولن تتوجه إلا إليه ولو لم يعلن عن تبني الحادث، فـ"داعش" كسابقه "القاعدة" كلاهما تنظيم شاركت عدة جهات استخبارية في تكوينه، وكان من المهام المنوطة بهما التغطية على جرائم بعض جهات الاستخبارات العالمية، ولعل أحداث 11 سبتمبر الشهيرة أول الأمثلة وأكثرها وضوحاً، فقد أصبح من المؤكد للجميع أن "القاعدة" رغم تبنيه للحدث على أعلى المستويات لم يكن سوى آلة الجريمة، وربما لم يكن سوى مسمار في آلة الجريمة وحسب.

وفي العراق إبان الاحتلال الأميركي تم اغتيال عدد من الشخصيات الشيعية كعبدالمجيد الخوئي ومحمد باقر الحكيم وتفجير قبري علي الهادي والحسن العسكري، وتبنت الجماعات التكفيرية إذ ذاك هذه الأعمال وغيرها، وثبت أن جميعها من تدبير المخابرات الأميركية والإيرانية.

وقبل أكثر من عام تم تفجير أمام السفارة الإيرانية تأثر به مدنيون وحسب، ولم تُصَب منه السفارة الإيرانية بأذى، وإن كانت زعمت مقتل ملحقها الثقافي، وبادر داعش بتبنيه، واستخدم الإعلام الإيراني إذ ذاك هذا التفجير في محاولة استعادة بعض سمعته التي ذهبت عالمياً بسبب موقف إيران المخزي من جرائم حزب حسن نصرالله في القصير وحمص، واتَّهَم فريق من الكتائب الإعلامية لإيران المملكة العربية السعودية بهذا التفجير رداً على الموقف السعودي الصلب من التغلغل الإيراني في العراق وسورية، بينما جنح فريق آخر من كتائب إيران الإعلامية إلى اتهام الصهاينة بهذا التفجير جرياً على العادة الإيرانية في استخدام إسرائيل كورقة دعائية وغطاء لسياساتها المنحرفة في المنطقة.

لكن العجيب أن أياً من إيران وحزب الله لم يتهم داعش بتلك العملية مع تبرعه السريع بتبنيها،

وتبنى داعش قبل أشهر عملية قتل محرري صحيفة تشارلي إيبدو، وظهرت بعد ذلك تقارير أقل ما يُقال عنها إنها تروي الحادث بطريقة أكثر إقناعاً، وهي تؤكد أن وراء الحادث جهات استخبارية ذات مصلحة في إحداث توترات عنصرية ليس داخل فرنسا وحسب، بل في أوروبا الغربية كلها.

وكذلك سقوط الطائرة الروسية الغامض من ارتفاع 30 ألف قدم تبناه داعش، وليس هناك ما يؤكد هذا الأمر، بل إن الشواهد على نفيه ربما تكون أكبر، فأصحاب المصالح من توقف النشاط السياحي الروسي في مصر كثيرون خاصة بعد أن كادت روسيا تؤمن احتياج النشاط السياحي المصري بالسائحين الروس الذين تجاوز عددهم وقت إسقاط الطائرة الأربعمئة ألف سائح.

وحتى انفجار الضاحية الجنوبية لم يمس بنية الحزب العسكرية أو السياسية، وإنما كان ضحايا الانفجار من العمال والباعة والمتسوقين والمصلين ورواد الحسينيات، ولا شك عندي أن أكبر المستفيدين من هذا التفجير هو حزب نصر الله، وذلك لأن المعارضة لسياسات الحزب أصبحت كبيرة داخل قاعدته الشعبية، ومثل هذا الانفجار سوف يُشعر الشيعة اللبنانيين من غير العسكريين أو السياسيين أنهم مستهدفون لذواتهم، وأن سياسة الحزب الهجومية على السنة في سورية سياسة مُبَرَّرَة ومدركة لأبعاد ما تفعل، وأن المعارضة لها أو الخروج عن إطارها في هذا الوقت هو الخطر المحقق وليس العكس، ولعله لهذا قال حسين خليل المعاون السياسي للأمين العام لحزب الله معلقاً على تفجيري الضاحية: "ما جرى اليوم يؤكد أننا نسير على الطريق الصحيح، وأن هذه المعركة مستمرة في وجه الإرهاب، وهذه المعركة ليست قصيرة بيننا وبينهم". فهذا التصريح من حسين خليل يؤكد حقيقة أن حزب حسن نصر الله استقبل هذه التفجيرات وهو متأهب لاستغلالها تعبوياً لإعادة بناء ثقة قاعدته الجماهيرية فيه، وأيضا لتكوين قاعدة جماهيرية إضافية على حساب الشيعة اللبنانيين.

ولعل مُعترضاً يتساءل: هل من المعقول أن يكون حزب حسن نصرالله ضالعاً في تفجيرات تستهدف أبناء طائفته؟! والجواب: نعم، فالأميركيون كانوا ضالعين في هجمات 11 سبتمبر بالرغم من حجم الضحايا الأميركيين، ومن قرأ القصة الحقيقية للمحارق النازية في النمسا وألمانيا يعلم أن الصهاينة كانوا ضالعين في قتل أبناء طائفتهم، وإيران ضالعة في قتل أبناء الطائفة الشيعية العرب في الأحواز وفي العراق، وكل ذلك يتم لأنهم يَرَوْن أن التضحية ببعض أبناء الشعب أو الطائفة في سبيل تحقيق هدف استراتيجي هو مثل التضحية بهم في معركة حربية، بل يَرَوْن أن تحقيق هذه الأهداف بهذا القدر من الضحايا أفضل بكثير من المواجهات العسكرية.

وحين ننتقل إلى تفجيرات فرنسا، نجد أن الثورة السورية التي كانت المُبَرِّر الأول لنشوء داعش هي أول المتضررين منها وآخر المستفيدين، بل إن المستفيد الأول هو النظام السوري الذي مازال يَعتَبِر موقفَ فرنسا موقفاً داعماً للإرهاب، وذلك لأن الرئيس هولاند ووزير خارجيته يُصران حتى اليوم على أن الأسد ليس جزءًا من الحل، ولا يمكن أن يكون حاضراً في مستقبل سورية القادم، وهذا الموقف هو ما دعا مفتي سورية إلى تهديد فرنسا خاصة وأوروبا عامة بهجمات انتحارية يصدِّرها لهم الاستشهاديون السوريون بزعم المفتي، وكما نقلت وكالات رويترز عن أحد شهود العيان للهجوم الذي استهدف مسرح باتاكلان قال: "سمعت المهاجمين يقولون للرهائن إنها مسؤولية الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند.. ما كان عليه التدخل في سورية".

أما على المدى البعيد فالفوائد التي تتوخاها دول الغرب من أمثال هذه الهجمات تتمثل في نزع الغطاء الديمقراطي عن الفرصة الكبرى التي تتيحها دول غرب وشمال أوروبا للمسلمين فيها كي يحافظوا على هويتهم من حرية كبرى في اتخاذ المساجد والجمعيات والمدارس، تلك الحرية التي لا يمكن انتزاعها من المسلمين هناك بمثل هذه الأحداث التي يفترض أن تستوجب إعلاناً عن حالات الطوارئ وقدرة على استحداث أنظمة تحد من هذه الحريات.

الخلاصة أن كل ما تقوم به الجماعات التكفيرية وإحداها داعش لا يَصب سوى في مصلحة أعداء الإسلام والتي تزعم داعش وأشباهها حربها لهم، الأمر الذي يؤكد النظرية السائدة بأن داعش صنيعة استخباراتية يمكن أن تستظل تحتها كل جرائم الاستخبارات العالمية، كما يمكن في ظلها أن تقوم هذه الأجهزة بأعتى الحروب دون أن تخسر كثيراً.