كانت مدينتي كل مساء تراقص الغيم، وتلتحف بالعرعر.. هادئة مستكينة بين جبالها، تداري جمالها، وتبتسم لضيوفها.. في عرسها الموسمي سماؤها ترسل إليهم هداياها، وأرضها تجمع من كل قرية خطر ريحان لتصنع أكاليل تطوق بها أعناق القادمين إليها..

أبها كانت تحتفي بكل شاعر.. وتشعل له قممها طرقا وغناء، حتى يقبل عليها الباحثون عن مبهجات الروح..

أبها كانت ولا زالت؛ بحاضرتها وقراها، سهلها وجبلها وواديها، قصورها، ناسها، طينها.. ترفض أن تفرق بين أهلها ومن افترشوا ترابها، والتحفوا سماءها.. تأخذهم جميعا في حضنها. تغني الفقير من جود أرضها قمحا وحنطة وشعيرا.. وتسامر العاشق وتشاركه فرحه ووجوده، والمغترب تسكنه أرقى قصورها الفاخرة..

لم يشعر القادم إلى أبها أنه غادر أرضه، لم تكن يوما طاردة.. كانت ولا زالت قابلة متعايشة مع كل البشر.. صوت أهلها لا يرتفع إلا عند إحقاق الحق وعند سلب الأرض..

حتى مساء يوم الخميس آخر نهارات العمل، والكادحون يحزمون حقائب العودة، بعد أسبوع في مصنع الرجال، بعد التدريبات الجادة.. يؤدون الصلاة.. وقبل أن يلقوا التحيات والسلام، تتناثر أجسادهم التي كانوا يعدونها ويعتنون بلياقاتها لهذا الوطن.. وللوطن، تتحطم أحلامهم وتنتهي قبل أن ترى النور..

تسافر أرواحهم إلى ملكوت الرحمن بعد أن كانوا يتأهبون لخدمة ضيوف الرحمن.. بعد أن كانوا عصبة، يأتي ذو العقل المؤجر بيد طائشة، وجسد قذر، ليشتت أجسادهم الطاهرة واقفة بين يدي الله!

أبها المزن والفرح وخضاب الحناء وضوء القمر والسامرين! أبها بركضها إلى الغناء والوفاء والعطاء! أبها بحقولها وبساتين رمانها! أبها في نهار الخميس، تداعى أهلها.. ليس لعرس ولا صريم، ولا ليبنوا "فرضة" دكها السيل.. بل تداعوا على فاجعة ثار لها الشجر والحجر وبكت من هولها السماء!!

تداعوا ليضمدوا جرحا غزا صدورهم، وأمست بعده مدينتهم ثكلى، تنوح مع النايحات، وتلعن الفكر الظلامي المتوحش، ومن أسس له ودعمه ودعا له.. تلوم الناس: لماذا أغلقوا نوافذ الحياة المطلة على الحب، واختاروا النفق المملوء جهلا وتطرفا وضلالا!

أبها؛ تلعن من قد قميص البساطة في الدين، وارتدى ثوب التقى المشبوه.. فأمست تنوح وتلعن بعد أن كانت تغني.