بعض الفقد يترك ندبات في القلب والذاكرة لا تنمحي مع مرور الزمن ولا يأسوها فرح الأيام مهما أعطت، لأن فرحها من دون وجوه بعينها يبقى منقوصا، وتبقى ندبة فقد راحل الوطن الكبير أسد السنة نايف بن عبدالعزيز واحدة من أعمق ندبات القلب التي تستعصي على العلاج كلما هاجت الذكرى واشتعلت الذاكرة ومر على الروح طيف نايف الإنسان المرهف الحس الرقيق الحاشية الذي شغل الناس عن مآثره، نايف رجل الأمن القوي الذي كان اسمه كالخوف يسقط في قلوب عتاة المجرمين فينتفضون منه، ويتنفس الناس الصعداء حين يرددونه من فرط شعورهم بالأمان ووطنهم بين يدي هذا الفارس اليقظ.

فقط من تعرضوا للإشعاع الإنساني لفقيد الوطن نايف بن عبدالعزيز، يدركون تماما واقع ما يعتريني الآن من حزن وأنا أكتب عنه –رحمه الله-، ذلك الذي كان على قليل حديثه إذا تكلم تمنى الجميع ألا يتوقف عن الكلام، لما يفيض به منطقه من حكمة وعذب حديث، وبعد نظر وعمق رؤية للأحداث واطلاع واسع يكشف عن موسوعية فكرية لرجل نذر حياته لأمن وطنه والدفاع عن عقيدته، وفوق هذا وذاك تواضعه الجم –رحمه الله- حتى لتخال وهو يتحدث إليك أنه مواطن عادي وأنك أنت الأمير من فرط اهتمامه بحديثك وإصغائه إليك حتى تنتهي من حديثك.

لكنْ تبقى اللمسات الإنسانية، والمواقف الكبيرة والعميقة التي شهدتها برفقة هذه الهامة الشامخة من هامات الوطن، بالغة التأثير في النفس، من تلك المواقف التي لا تنسى، موقف أسس لمبدأ معمول به في الدولة حتى الآن يوم كنت على رأس العمل في الوزارة، وكان -رحمه الله- في كل لقاء يجمعني به دائم التوصية لي بالمرضى فأخبرته ذات مرة أن لدينا أزمة في الأسرة وأن عددها لا يكفي، وأننا بدأنا بصدد بناء مستشفيات جديدة وأن الأمر سيستغرق سنوات حتى ينتهي العمل في هذه المشاريع شأن جميع مشاريع البنية التحتية، فإذ به رحمه الله يقول لي: لكن المرض لا ينتظر.. يجب عليك التصرف. فبينت له أن الحل الوحيد للانتهاء عاجلا من هذه المشاريع أن نستعين بجهود القطاع الخاص، وأن هذا سيتطلب منا تكلفة إضافية، وميزانيتنا لا تسمح. فما كان منه -رحمه الله- إلا أن قال لي: استعن بالقطاع الخاص ولا تتردد.. لا خير في المال ومرضانا يتألمون ولا يجدون أسرة لعلاجهم، وإذا نقص عليك المال فارجع لي.

وبالفعل أنفذت وصيته واستعنت بالقطاع الخاص لسد العجز بالأسرة، وأصبح هذا الأمر سنة إدارية ونظاما معمولا به في وزارة الصحة، أسأل الله أن يجعله في موازين صالحاته.

يحضرني أيضا من المواقف الإنسانية التي لا تنسى والتي تعرضت خلالها لإشعاع حالة إنسانية عالية التفرد تجسدت في راحل الوطن نايف بن عبدالعزيز، فمع مجيئي للوزارة تقرر هدم مستشفى منى الطوارئ وإعادة بنائه من جديد، وكان مستشفى قديما متهالكا لا يليق بالمملكة وجهودها التي تبذلها في الحج، ولا يكفي حاجة الحجيج، بل كان خطرا على المرضى، وكانت المهمة بالغة الصعوبة إذ كان علينا هدم المبنى بعد الحج مباشرة وبناؤه من جديد وتأثيثه ومده بالأجهزة الحديثة وتشغيله قبل موسم الحج التالي، نظرا لأنه يخدم الحجاج، ولقد وفقنا الله وبالفعل تم هذا الإنجاز في تسعة أشهر، فكانت فرحتنا غامرة بهذا الإنجاز غير المسبوق، وأردت أنا أكافئ نفسي وزملائي والعاملين بافتتاح سموه للمستشفى فاستأذنته في هذا الأمر في أثناء جولة له قبل موسم الحج على المشاعر في هذا الأمر فقبل مشكورا. انتهت الجولة عِنْد المغرب وصادف خروجه من المستشفى وقوف بعض رجال الأمن المرافقين لسموه يصلون المغرب؛ ظناً منهم أن الجولة ستطول، فما إن رأوه خارجا حتى قطعوا صلاتهم وجروا إلى السيارة، فلما رآهم ابتسم –رحمه الله- ابتسامته الخفيفة وناداهم، وقال: لماذا قطعتم صلاتكم؟ قالوا: طال عمركم خشينا أن نتأخر عليك؟ قال: أتعرفون أنكم كُنتُم واقفين بين يدي الله الذي هو أعظم مني ومن الدنيا كلها؟ تأكدوا لو أنكم أكملتم صلاتكم لكان احترامكم عندي وتقديري لكم أكبر.. ارجعوا أكملوا صلاتكم واستغفروا ربكم .. وسأنتظركم؟ وكان يصلي علي كرسي -رحمه الله وأسكنه فسيح جناته-.

ولقد اجتمع علينا حزن عارم برحيله فما كدنا نفيق من تجرع مرارة رحيل رجل الخير والجود الحكيم ذي الدراية الواسعة ببواطن الأمور الأمير سلطان بن عبدالعزيز، حتى انسكبت وراءها في الحلوق مرارة رحيل نايف فكانت قاصمة الظهر لأبناء الوطن، لولا لطف الله بالقلوب.