منذ البداية كنا نعرف أنها مصالح بحتة لبلد تقوم مبادئه -حتى فيما بين أفراده- على فلسفة براغماتية تلهث وراء المنفعة في كل ما تأتي من قول أو فعل. لهذا فأنا شخصيا لست أحد المندهشين من الاتفاق النووي الأميركي الإيراني، فالحديث عن صداقة الأميركيين لنا لا يخرج عن كونه تعبيرا دبلوماسيا عن علاقتنا ببلد فرض الظرف السياسي علينا أن نلتقي معه في كثير من المواقف والمصالح، شأن السياسة في جميع دول العالم، وفي عالم السياسة من الوارد التقاء الفرقاء حول مصالحهم، تماما كما هو من الوارد افتراق الأصدقاء، أو بالأحرى الحلفاء، فتعبير الصداقة في عالم السياسة هو الوجه الآخر اللطيف للتعبير عن المصلحة. عن الأنظمة والحكومات أتحدث، أما بين الشعوب فالمجال قد يتسع لقدر من الإنسانيات التي لا يعبأ بها عالم السياسة.
نعم كنا نتوقع من الأميركان أن تتحول سياساتهم وراء مصالحهم في أي وقت، لكن ما نحن بصدده اليوم؛ ليس تحولا سياسيا فرضته مصلحة الإدارة الأميركية، بل تحول أميركي في الأسس التي تبنى عليها المصالح، فتم عقد قران أميركي مع الدولة الإيرانية بعدما تأكد للولايات المتحدة أن الرياض لن تلعب هذا الدور المهين الذي لعبته طهران وارتضته لنفسها.
السعودية دولة لها هويتها ومواقفها التاريخية تجاه قضايا أمتها الإسلامية وتجاه أشقائها العرب، وغيرها من الاعتبارات التي تجعل علاقتها بدولة لها سياساتها الملتوية كالولايات المتحدة الأميركية محكومة بالمصالح التي قد تتحول مثلما يحدث الآن، وهذا أمر كان في حسبان قياداتنا على الدوام، فلسنا أتباع أحد، والسعودية لم تكن في يوم من الأيام -ولن تكون- تابعة لأميركا، لم -ولن تكون- مقاطعة أو ولاية أميركية في الشرق الأوسط، وأكبر شاهد على ذلك، الزواج الأميركي الإيراني، الذي أشهر أخيرا، والذي كانت بوادره تلوح في الأفق من قبل، بعد افتضاح الاتفاق الأميركي الإيراني في عمان. لكن يقيني أنه ليس أكثر من زواج متعة مرهون بانقضاء وَطَر مصالح الإدارة الأميركية من الدولة الإيرانية، وتحولها عنها مع أقرب مصلحة تلوح في اتجاه آخر، تلهث وراءها الإدارة الأميركية كالعادة. فأميركا نفسها اليوم لم يعد في وسعها أن تراهن على شيء، أو تمتلك يقين الماضي في قدرتها على صناعة الأحداث في المنطقة، بعدما أصبح للعرب درع وسيف، وعرفوا السبيل إلى وحدتهم، وعصفوا بجميع مفاهيم الأمس البالية عن الصمت العربي إزاء كثير من التجاوزات التي تشهدها المنطقة، وهو الصمت الذي فسرته الإدارة الأميركية وغيرها من القوى في المنطقة على أنه استكانة وإقرار بأمر واقع، في حين لم يكن بالنسبة إلينا سوى نوع من الحكمة والحرص على إقرار قيم السلم وإيثار الحلول السياسية، بالإضافة إلى بعض القيم العربية الأصيلة التي تجعل المملكة ملتزمة أخلاقيا تجاه أحلافها، إلا أن التجربة أثبتت أن الجانب الأميركي زهد في الكرم العربي الذي عومل به من قبل المملكة طوال عقود، والذي ظللنا نعامله معاملة شريك وحليف استراتيجي ولم نخل بالتزاماتنا الأخلاقية معه، في وقت لم يكن فيه لدى الإدارة الأميركية مانع من التحالف ولو مع الشيطان، من أجل مصالح يبدو أنها غير مشروعة في المنطقة، وإلا فالمصالح مع المملكة أكبر، لكنها مصالح مشروعة داخل إطار قيمي نحرص عليه في جميع علاقاتنا السياسية مع الأشقاء والأصدقاء، لكن يبدو أن الجانب الأميركي لديه برنامجه الخاص الذي لا نعتقد أنه فوق مستوى الشبهات. وللحديث تتمة.