أحيانا تكون الأمور يسيرة أو أقرب إلى اليسر، لكن الإنسان يشق على نفسه، لنوازع في النفس البشرية لا يعلمها إلا بارئها. وحين يلجأ بعضهم إلى خيار اختراع العجلة من جديد، بدلا من البدء من حيث انتهى الآخرون، فإنه بذلك لا يشق على نفسه وحسب، بل يقطع الطريق على استمرار عجلة التطور والتنمية بإهدار جهود من سبقوه، ويكون واقعا كهذا أكثر مأساوية، حين يتعلق بمشروعات وبرامج وطنية كبرى أنفق فيها جهد ومال كثير من مقدرات أوطان كان من حقها أن تجني ثمرة هذا كله، لولا بعض القرارات المجافية لأبجديات الحراك التنموي بل لسنن التطور البشري.
لطارئ أراه من الأهمية بمكان، سنعرج اليوم على شأن محلي، بالغ الحساسية والمساس بصحة مواطنينا ومقيمينا، بل بالصحة العالمية التي تحبس أنفاسها إبان كل موسم حج وعينها على بلادنا، ألا وهو دخول وزارة الصحة منعطفا جديدا تحت قيادة معالي الأستاذ أحمد الخطيب، وزير الصحة الشاب، الذي أشعر بتفاؤل كبير تجاه قدرته على فك شيفرة المنظومة الصحية في بلادنا، والوصول إلى مفاتيح تشغيلها بكفاءة عالية، تليق بما يوفر لها من إمكانات، وتليق أيضا بدورها الكبير الذي يتجاوز حدود صحة المواطنين والمقيمين على أرض المملكة، إلى الصحة العالمية.
ومبعث تفاؤلي أكثر من مؤشر طمأنني كثيرا على أداء هذا الوزير الطموح الذي يمتلك بالفعل نظرة إدارية ثاقبة، قرأت جانبا منها إبان لقاء جمعني بهذه الشخصية التي لمست فيها حماسا منقطع النظير، ذكرني بحماسي نفسه يوم توليَّ وزارة الصحة، ولقد شجعني للكتابة عنه هذا الوزير الجاد -وأيضا إليه- ما لمسته من خطوات وجدتها على طريق البداية الصحيحة ولا سيما قراره الأخير تكليف زميل لنا فاضل وكيلا لوزارة الصحة للمختبرات وبنك الدم، أيضا خطوة تشغيل المختبر الوطني الذي انتهى منذ عدة سنوات، ولو كان يعمل لوفر لنا الجهد والمال، وما احتجنا إلى إرسال عيناتنا للمختبرات الأوروبية أو الأميركية، فقرار مثل هذا يستحق منا الشكر لوزير قرر البدء من حيث انتهى من سبقوه، لمواصلة البناء، القرار الحكيم الذي نرفع له القبعات يا معالي الوزير، وما دامت هذه نيتكم الطيبة، وروحكم المؤْثرة للتشارك في بناء منظومة صحية حقيقية وتقديمها لوطننا، وما دمتم عزمتم على الاستفادة من كل إمكانية متاحة وكل فكرة مطروحة لتعزيز الأداء الصحي وبالتالي تعظيم الخدمات المقدمة لإخوتنا المقيمين والمواطنين، فلعلي أذكر معاليكم، بما لمسته فيكم من رحابة صدر -وهي تذكرة وليست نصيحة أبدا؛ فأنتم أهل دراية وثقة ونظرة ثاقبة- بأنه عند تركي العمل بالوزارة كانت هناك برامج وخطط بذل عليها الزملاء جهدا كبيرا كيما ترى النور، وكان من شأنها أن تثب بالخدمات الصحية في بلادنا وثبات كبرى للأمام، لكن بعد تركي العمل، ظن بعضهم أنها تخصني أنا، ولا أعرف كيف فكروا بهذا المنطق، فنحن جميعا موظفون تحت توجيهات قيادتنا الحكيمة، وكل خطوة كنا نخطوها، كنا نخطر بها القيادة، فهذه مشروعات الوطن في الأخير، وليست مشروعات حمد المانع أو غيره.
كان بين هذه البرامج التأمين الصحي على جميع المواطنين، ودائما كنت أرى هذا المشروع من البرامج الوطنية الكبرى بالغة الأهمية التي لا تحتمل التأجيل لأسباب عديدة يطول شرحها، وكنا قد قطعنا شوطا كبيرا في اتجاهه، قبل أن توقفه القيادة التي أعقبتني، وقد هيأت له البنية التحتية، وبدأنا الخطوات الأولى وأمنّا بالفعل على ثمانية ملايين من المقيمين، بالإضافة إلى أربعة ملايين ونصف المليون مواطن مؤمَّن عليهم من قبل مراجعهم أو من تلقاء أنفسهم، لكن الأمور توقفت عند هذا الحد بخروجي من الوزارة، وحتى اليوم نرى معاناة إخوتنا المواطنين الذين يعانون الأمرين خارج التغطية التأمينية.
المراكز الصحية أيضا أفق خدمة صحية رحب، لذا ركزنا عليها وسعينا إلى تجويد خدماتها حتى نبني جسرا من الثقة بينها وبين المواطن. كذلك مشروعات مثل طبيب الأسرة، والحزام الصحي، والملف الصحي الموحد، وبرنامج السكر الذي تم إقراره من قِبَل قادة الخليج العربي، وبرنامج بلسم الذي يقضي بخصخصة القطاعات الصحية، وهي مشاريع يطول الوقت في شرحها، وسرد أهدافها وشرح برامجها، فقط أوردها هنا للتذكير، لعل بصيص أمل يلوح ببعثها من جديد لينتفع بها الناس.
بقي أن أختم قائمة الأحلام التي وئدت في أدراج وزارة الصحة فور مغادرتي، وإن هذا الحلم قد تحقق وبدأ ينمو ويفتح أفقا رحبا أمام المستقبل الطبي لأجيالنا، فلقد بنيت كلية للطب في مدينة الملك فهد الطبية كانت تخرج سنويا مئة وعشرين طبيبا وطبيبة من أبنائنا، وكان مستواهم العلمي محل إشادة عالمية من قبل أكثر من جهة دولية، ثم ما إن غادرت الوزارة حتى أُوقِفَ القبول بالكلية تمهيدا لإغلاقها، والأغرب من ذلك تحويل تبعيتها للحرس الوطني!
معالي الوزير هذه الكلية بنتها وأسستها وزارة الصحة، فبأي حق تعطي لوزارة أخرى، ولا سيما أننا نتحدث عن مبنى غير قابل للنقل إلى مكان آخر، فكان الواقع الغريب الذي تشهده الكلية المغلقة اليوم داخل مدينة الملك فهد الطبية. فهل يعقل أن مدينة كلها تتبع وزارة الصحة في حين تنفرد الكلية من دون جميع منشآتها بتبعيتها لوزارة أخرى؟ أيّ منطق هذا؟ أليس من المنطق ومن الإنصاف أيضا، إعادة الحق إلى أهله؟ أيضا أوليس من المنطق تصحيح الخطأ حتى ولو بعد حين بفتح هذه المنشأة التعليمية الطبية المهمة من جديد؟ ما ذنب الوطن حتى نحرمه من مئة وعشرين طبيبا وطبيبة كل عام، لا شك في أنهم كانوا سيصبحون ضعف هذا العدد -على الأقل- اليوم، لو لم توصد أبواب الكلية في وجوههم؟
وفي الأخير، فنحن جميعا مجندون لخدمة هذا الوطن، وثقتي وتفاؤلي بكم كبيران يا معالي الوزير، فسر على بركة ربك، بارك الله مساعيك لخدمة بلادك، نفع الله بك.