حينما فرضت "داعش" الجزية على المسيحيين في الموصل، تصدى لها لفيف من العلماء والمفكرين مستنكرين ما قام به التظيم، ولكن ردة الفعل لا تكفي لرد فعلهم؛ لأن التنظير العام الموجود لدينا في العلاقة مع غير المسلم حين السيطرة عليه تقتضي التدرج معه كما تدرجت "داعش" مع المسيحيين، فلو سألت هذا المستنكر بعد استنكاره عما يجب أن يفعله الغزاة المسلمون المنتصرون مع الرعايا المسيحيين أو اليهود لأعطاك التدرج الذي عليه "داعش"، والذي يبدأ بالإسلام أو الجزية أو القتل، فالمشكلة ليست في "داعش"، إذ لم يخترعوا هذا التنظير، بل كل الجماعات المسلحة لم توحد آراءها الفقهية لأنها لا تنتج جديدا، وإنما المشكلة في الفقه التقليدي الذي يستقون كل أحكامهم منه، والذي ننظر له رسميا على أنه هو الإسلام الحقيقي، ولو كانت صياغة الأحكام الفقهية مجددة منذ عقود، وضمن طبيعة عصرنا، لما خرجت مثل هذه التصرفات، فالقول إن العلماء استنكروا لا يعدو أن يكون عملا على منطقة الاستثناء لا غير؛ أي تعود علينا بالضرر أو لم يحن وقتها، أو لم يأذن بها ولي الأمر، فهي مجرد ترتيبات أو "تكتيكات"، وهذه ليست فقها، ولا تحتاج إلى كبير علم لتقريرها ولنوصي بالرجوع للعلماء، بل لا بد من معالجة الأصل، وبالتالي فإن المطالبة بأن يكون للعلماء دور في دحض هذه التصرفات لا يمكن أن تجدي طالما أن بعض هؤلاء العلماء ليسوا من أهل التجديد.
إن "داعش" ومن يؤمن بذلك الترتيب، قد قرأ آخر الآية التي فرضت الجزية ولم يقرأ أولها، فالجزية جاءت في قوله تعالى: (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)، ولكن في أولها: (قاتلوا)، أي أنهم أناس قاتلناهم، وليس فقط سيطرنا عليهم، فالسيطرة بلا قتال أو بقتال ضعيف لا تظهر منه شدة بأسهم، لا تستلزم دفع الجزية، فالجزية عقوبة لهم على قتالهم، وليست ضريبة مقابل الدفاع عنهم كما يردد كثيرون، ولا مصدر دخل اقتصادي يفرض حين السيطرة، فهي تأتي ضمن الأسر أو القتل أو الفدية، ولو كانت تثبت لمجرد سيطرة المسلمين لأصبحت إتاوة أو ضريبة موضوعة لاستغلال الشعوب المسيطر عليها، وكذلك لا يمكن أن تؤخذ من الأجيال التالية؛ لأنهم لم يقاتلوا، فإذا انقرض الجيل تنتهي الجزية، فلا تتوارث حتى وإن كان آباؤهم مقاتلين فإذا انقرض العصر الشبيه بانقراضه في الإجماع فإنها تسقط.
إن الدفاع عن الجزية وفرضها بكونها زهيدة أو لا تؤخذ إلا من الرجال أو المقاتلين، وإذا اشتركوا مع المسلمين في معاركهم سقطت عنهم، كل هذه التبريرات لا تجدي في العصر الحديث؛ لأن الجزية قائمة في أساسها على اختلاف الدين؛ فهي تمييز ديني لا يصلح في دولة مدنية، فهم أشبه بالمواطنين من الدرجة الثانية في الدول الدينية، وهذا لا يضرهم في مثل هذه الدول، فلا يمكنني أن أجزع كمسلم من أن أكون مواطنا من الدرجة الثانية في الفاتيكان، وقد أقبل بدفع ضرائب مقابل الإقامة فيها، ولكني سأتضجر من كوني كذلك في أوروبا أو أميركا، وكذلك الحال بالنسبة لغير المسلم في الدول الحديثة الإسلامية، فمثل تلك التبريرات لا تكفي للإقناع بها، وإنما ما ذكرته من معناها وظرفها.
وأما القتال الذي يتسبب في الجزية، فهو القتال الذي اعتدى فيه غير المسلم على المسلم بسبب دينه؛ فالحرب دينية وليست دنيوية، أو علم المسلمون أنهم يبيتون كرها لهم ولدينهم واستئصالا لشأفتهم فابتدؤوهم بالقتال، فهذا هو سبب القتال لا الكفر، وهي مسألة قديمة مبحوثة، وما يقال في الجزية يقال في السبي حتى لا يسبوا نساء ويغتصبوهن باسم الدين، فهذا في أزمنة الرق، فضلا عن أن اغتصاب الأمة محرم؛ لأنه اعتداء على الإنسان، فالشارع أباح المعاشرة فقط برضا الطرفين ولم يبح الاغتصاب.