تزداد وتيرة الاهتمام بقضايا العنف الأسري يوما بعد يوم تبعا لزيادة مظاهر العنف سواء من حيث العدد أو من حيث حجم الفعل أو من حيث زيادة الثقافة التي لا تسمح بتقبل العنف، ومع زيادة الاهتمام بموضوع العنف إلا أننا نجد أنفسنا غير مشتغلين بمعالجته على مستوى الوعي والثقافة وإنما على مستوى الردع القانوني أو الأمني أو الإجرائي وهذا جيد، ولكن على مستوى الوعي فإننا نجد خطابنا يتجه مباشرة إلى التخلي عن العنف كفعل وهذا لا يكفي لأنه لا يمكن الحث على الإقلاع عن فعل دون البحث في أسسه ومن أين نشأ للقضاء عليه، فالمسؤول الأول عن العنف هو تلك المفاهيم الخاطئة للتربية أو القوامة فالعنف في حقيقته إفراز لمشكلة وليس مشكلة بذاته. وهذا إذا ما نظرنا إليه كماهية خاصة به بخلاف ما إذا نظرنا إليه على أنه معاناة فإنه يمكن تسميته مشكلة، فالقوامة على الزوجة أو التربية للأبناء تتضمنان في نظرتنا لهما سلطة لا يمكن أن تنفك عنهما وانفكاكها يعني ذوبانهما ومع وجود السلطة يكون العنف قريبا جدا فهو يتولد منها ولا يتولد من أي مضمون آخر كالتنظيم أو التوجيه فهما لا يأتيان به كخاصية فيهما بخلاف السلطة، وما يتعين على الموجهين فعله هو نشر تلك الأسس المكونة الجديدة لا الاتجاه مباشرة للعنف والدعوة لإزالته فلا بد من إعادة بناء التربية والقوامة من جديد وأنهما ذات بنى توجيهية بالنسبة للتربية أو تنظيمية بالنسبة للقوامة وليستا ذات بنية سلطوية، وأنا أتحدث هنا عن البنية لا الممارسة فربما يؤمن البعض بأنه من الأفضل ان تكون الممارسة بلا عنف ولكنه يرى في نفس الوقت أن المعنف لم يتجاوز دائرة التربية أو القوامة وإنما ما زال بها بخلاف التعامل مع العامل. فالجميع يؤمن بأن الكفيل في حال ممارسة العنف وخاصة الجسدي منه قد تجاوز دائرة العمل، ولا أدل على ذلك من الموقف الشعبي في تونس بعد مصادقة البرلمان التونسي في يوليو الماضي على قانون يجرم ضرب الآباء لأبنائهم حيث كان موقفا رافضا ومتهكما وأنه خطوة أولى لنزع سلطة الأب وكل هذا بسبب تصور أن العنف جزء من قوام التربية. ولا أظن أن بقية المجتمعات العربية ببعيدة عن المجتمع التونسي وهذه المفاهيم هي ما خلقت ما يعرف بالسلطة الأبوية والسلطة الذكورية بسبب حضورهما القوي في البنية الاجتماعية

إن اختلال تلك المفاهيم أدى وبكل وضوح إلى قبول العنف ورفض ما زاد منه فقط ولا أقصد العنف اللفظي فحسب بل حتى الجسدي. فمنه ما هو مقبول وخاصة مع الأطفال والذين قد يتجاوزون العاشرة وأحيانا مع الزوجات، فما نسمعه من رفض للعنف إنما هو للقدر الزائد منه وليس لأصله فهو يفارق بقية السلبيات الاجتماعية السائدة بهذا الفارق الوحيد. وهو أننا نقر ونعترف بأصله ولا نخطئه ولا نجعله سلبيا بل نجعله مطلوبا أحيانا كي تستقيم الحياة الزوجية أو التربية. وهذا غير موجود في بقية السلبيات فلا نقول لا بد من شيء من المخدرات أو البيروقراطية أو الطلاق، ووجود هذا التداخل بين العنف والتربية والقوامة أدى إلى الخطأ في وصف الأفعال بل حتى إطلاق المصطلحات القانونية فالعنف الذي يؤدي إلى إصابات بالغة ككسور أو جروح بليغة أو حروق يطلق عليه عنف وخاصة في الخطاب الإعلامي مع أنه في حقيقته جرم فإطلاق مصطلح الإجرام الأسري على هذه الأفعال بدلا من العنف هو الأنسب، فلو استبدل الإعلام العنف بالإجرام لكان أفضل وأدق في التنفير منه بدليل أن نفس الفعل لو حدث مع شخص خارج الأسرة فإنه سيعامل على أنه جرم أو في أقل أحواله يوصف بالاعتداء أما مع فرد داخل الأسرة فإنه لا يوصف بذلك مع أن درجة الألم الجسدي والنفسي واحدة، إضافة إلى أن هذا التداخل أدى لقراءتنا الخاطئة للعنف في الغرب فإحصائيات العنف لديهم نظنها مماثلة للعنف الإجرامي مع أنها أقل من ذلك بكثير لأن الإصابات البالغة تصنف لديهم كجرم أكثر من تصنيفها كعنف.