ينحو بعض المهتمين بالشأن العام إلى تحميل الخليفة الأموي الأول معاوية بن أبي سفيان المسؤولية عما حدث للمسلمين من صراعات، ليس في عهده فحسب، أو في السنوات التي تلت عهده، وإنما تحميله المسؤولية عما جرى للمسلمين على مدى ألف وأربعمئة عام، وقد تمتد الفترة لآلاف الأعوام إذا استمرت الصراعات.

وفضلا عن أن الصراع يسهم في حدة الخلاف المذهبي، إلا أنه ينم أيضا عن سخف في التحليل، والوصول لعجز مطبق في تحليل التردي السياسي لدينا، ولا أعلم كيف وصلنا لهذا المستوى.

وليس هذا في إرجاع الصراع والتشرذم إلى معاوية، بل إرجاع الصراع أو مظاهر التخلف أو حتى التقدم إلى الجيل الأول من الإسلام بكل ما حواه، وجعله ماثلا في التحليل سلبا أو إيجابا، كحادثة السقيفة أو الفتنة الكبرى أو غيرها من الأحداث إبان تلك الفترة، فالاستمرار في ادعاء تأثيرها يخلق منها أسطورة مؤثرة كالأساطير القديمة المستخدمة في الحكاوي المؤثرة على أصحابها، وكان من المفترض أن تزول، ولكن نظرا لغرقنا في التفسير من خلال الدين، فإننا لم نجد سببا ذا مثول قوي في تاريخنا الديني سوى معاوية، أو الفتنة الكبرى فجعلناها هي السبب أو المؤثر الخفي.

إن الحقيقة الكبرى التي نغفل عنها أو نتغافل عنها بمعنى أصح، ولا نريد الاعتراف بها، تكمن في أن أزمة الصراعات عائدة لتردي العقلية العربية مهما حاول النرجسيون والشيفونيون نفي ذلك؛ فهي عقلية متمحورة حول ذاتها ولا تعرف البروز الفردي من خلال المجموع، أي بروز الشخص ببروز الدولة والمجتمع نهضويا، وإنما البروز الفردي من خلال الفرد نفسه ومطامعه، فهو إذا التف حول المجموع التف التفافا عنصريا ـ لا بنائيا ـ أي ينصهر مع المجموع لإثبات مواقف أو انتماء وليس للبناء، لتتشكل ثقافة القطيع والعقلية الجمعية، إضافة لتأخير العقل الحر كمرجع وتقديم المرجعيات الأخرى، وقد لا تنتهي مثالب هذه العقلية لو استمررت في سردها، فهذه هي التي أودت بالعرب قديما وحديثا، وهو ما يفسر ضعف الاستفادة من الأحداث في بلدان الربيع العربي، للسير قدما باتجاه أنظمة حديثة، حيث عاد الصراع مرة أخرى بين القوى السياسية في تلك البلدان التي حصلت بها الثورات، وهذا التحليل الجذري هو ما يجب التركيز عليه، لا أن نكون كالنعامة التي تدس رأسها في التراب ونصور أنفسنا أننا متقدمون لولا معاوية، أو لولا الدين، كما يدعي ذلك الملاحدة أو غلاة العلمانيين.

نحن نجحد السبب الرئيس ظنا منا أنه يوحي بالجنون مع أنه طريقة تفكير، وكل محاولة للإصلاح بعيدا عن ذلك، هي نوع من الترقيع والمسكنات المؤقتة التي قلما تفلح وأحيانا تصل للعبث أيضا.

هذه هي مهمتنا لا محاكمة معاوية والبحث في الفتنة الكبرى واسترجاع سقيفة بني ساعدة، لأن تاريخ العرب مملوء بالصراعات؛ فقبل بعثة نبينا عليه الصلاة والسلام كان هناك صراع على أشده بين القبائل، ومعاوية لم يخلق بعد، ولا الفتنة الكبرى، ثم توقف ذلك الصراع أقل من ثلاثين سنة، وهي الفترة التي كان النبي موجودا بها، خجلا من الوحي لا غير واحتراما لمقام النبوة، ثم بوفاة النبي عادت الصراعات من جديد، ولكن كان لعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ الفضل في إخمادها لانتهاجه المنهج العقلي، وبعد وفاته عادت، فلو لم يوجد معاوية لجاء معاوية آخر ينقض فترة السلام النبوي ويرجعنا الى أصلنا المستديم.

إن المسلمين في الغرب لا يتصارعون، ولا يتصارع الماليزيون مع الإندونيسيين، ولا المسلمون الهنود فيما بينهم، ولا المسلمون في روسيا وجمهورياتها، مع أن فكرهم الديني امتداد للعصور الأولى للإسلام، ولا يصلح تبرير ذلك بأنهم أقليات تكاتفت، لأن العرب حينما يكونون أقليات لا يتكاتفون، فهناك حزازت بينهم حتى وهم أقلية في أوروبا، وتجد جماعات تشترك في معارضة نظام سياسي في دولة ما يعيشون بها وهو هدفهم الأسمى، ومع ذلك نجدهم متناحرين ويستهلك تناحرهم جهدا أكثر من جهدهم المبذول لهدفهم الأساسي.