من الصراعات الفكرية التي ما زالت مستمرة منذ مطلع القرن دون الوصول لتوافق بشأنها صراع الإسلام والعلمانية بمعناها الكلاسيكي في الوسط الإسلامي، وهو فصل الدين عن السياسة.. ولذلك عدة معان، وهذا الصراع ما زال باقيا لارتباطه بالسياسة أولا، ولعدم وجود التنظير الديني السياسي في العصر الحديث، حيث ينحى دائما إلى البقاء بعيدا عن المناهج الحديثة متوجسا منها ورافضا لها، دون وضع مستويات وأحوال لها كما هو الحال مع العقائد الدينية أو المذهبية القديمة، مع أن الجمع بين العلمانية والإسلام ليس بأمر بالغ الصعوبة، فإذا كان الفكر الديني سابقا استطاع أن يقدم حلولا لصراعات كانت دائرة آنذاك كصراع العقل والنقل كما هو الحال عند ابن تيمية في كتابه "درء تعارض العقل والنقل"، وكصراع الفلسفة والإسلام كما هو الحال عند ابن رشد مع النظر البرهاني في "فصل المقال فيما بين الحكم والشريعة من اتصال" فكيف بالعلمانية والتي هي وبكل تأكيد أدنى من العقل وأصغر من الفلسفة، حينما تكون في مواجهة الإسلام.. فكيف نعجز عن الجمع بينهما، وليس هذا مع العلمانية فحسب؛ وإنما مع كل ما يصور أنه في مواجهة الإسلام، كالحداثة والليبرالية، فكلها أصغر من العقل والفلسفة، وهذا الجمع لن يحدث طالما أننا نستخدم العلمانية كتعبير عن الضد، أي اللا إسلام، وليس أحد الأوجه السياسية، فالعلمانية والإسلام في تداولنا السياسي لهما كالإسلام والكفر في الاعتقاد، فحينها والحال هذه لن تصبح منهجا فكريا وإنما تكفير سياسي لا غير، والجمع بينهما يستحيل كالجمع بين الإسلام والكفر كمعتقد.
إن الموقف الأنسب من العلمانية هو التوسط منها، فلا ترفض بالكلية ولا تقبل بالكلية، فقد تكون مطلبا في حالات معينة يكون فيها الفصل أفضل للإسلام وللدولة من الخلط، وهذا في ثلاث حالات:
الأولى، حين يختلطان على سبيل التوظيف.. أي أن يوظف أحدهما الآخر، بحيث تخرج السياسة مربوطة بعقوبة إلهية إن لم يمتثل لها الشخص، أو تبرر السياسات بالدين، وهذا في حال توظيف السياسة للدين، أو استخدام القوة السياسية لمعاقبة من يخالف الدين، وهذا في توظيف الدين للسياسة.. فالخلط في هاتين الحالتين مرفوض والفصل أفضل منهما، لأن إثم الفصل أقل من إثم التوظيف، كترك الصلاة فهو أهون من الصلاة رياء.
ففي حالة كإيران مثلا نجد أن العلمانية بها أفضل من العمل بالمذهب الشيعي أو حتى السني بتلك الطريقة السياسية الفجة، والحالة الثانية للفصل أن يجهل علماء الدين في بلد طبيعته، بحيث لا يحسنون إلقاء الفتاوى التي تناسبهم في ذلك البلد، فهنا يكون الفصل أفضل حتى ولو كان شعارا مرفوعا، لأن عدم الالتزام بأحكام الإسلام أهون من الالتزام به ثم تشويهه والجناية عليه، خاصة في زمن تعرف المبادئ والأديان بفاعليتها إنسانيا وحضاريا.
والحالة الثالثة هي العجز عن ذلك، إما لمعارضات خارجية أو داخلية، وهذه الحالة هي الأشهر والأوضح ولكنها ليست الأهم.
إن ذلك الفصل لا يكون في الغالب إلا مع جزئيات الدين، وإذا التفتنا لتطوير هذه الجزئيات وصياغتها صياغة حياتية معاصرة ـ كما صاغها القدماء وفق نمط حياتهم ـ لما احتجنا إلى الفصل أساسا، ولكن إلى أن تحدث هذه الخطوة الجبارة فلا مانع من التوقف عن الأخذ بهذه الأحكام في الحالات السابقة، وأما الكليات والأسس فلا يتصور الفصل إلا في العلمانية الشاملة كما أسماها الراحل عبدالوهاب المسيري التي تفصل القيم الإنسانية عن الحياة، حيث نكون بإزاء برجماتية أو مادية أو ميكافيلية لا بصدد علمانية سياسية مبسطة، فالأخيرة هي ما تطالب به العلمانيات في الدول العربية والإسلامية، فحرمة شرب الخمر من الكليات لكن السماح ببيعه أو منعه من الجزئيات التي تكبر أو تصغر بحسب الوضع، لكنها لا تشكل قوام الدين سواء في الدولة أو الفرد.