يقف الحجيج على صعيد عرفات في مشهد مهيب، يذيب القلب من عظمته، ويرقّ له الوجدان من رقّته. بياض الإحرام، وعَبَرات الوجوه، وارتجاف الأصوات، كل ذلك يصوّر لوحة إيمانية لا نظير لها. هناك، لا فرق بين غني وفقير، ولا سيد وعبد، ولا عربي وأعجمي، الكل سواء في ذلك الموقف الجليل، يرجون المغفرة، ويطلبون الرحمة.
أما من لم يُكتب له الحج، فباب الفضل لم يُغلق دونه، حيث جعل الله لهذا اليوم ميزةً لا تضاهى، إذ قال رسول الله ﷺ: «صيام يوم عرفة، أحتسب على الله أن يُكفّر السنة التي قبله والسنة التي بعده».
تصوّر أن صيام يوم واحد يُكفّر ذنوب سنتين كاملتين، أي فضلٍ هذا، وأي كرمٍ إلهي يفوق ذلك؟! ثم إن الدعاء في يوم عرفة له مكانة لا تُضاهى، حيث قال ﷺ: «خير الدعاء دعاء يوم عرفة».
هو يوم تُفتح فيه أبواب السماء، وتُنزل فيه الرحمة، وتُرفع فيه الأكف وقلوب أصحابها معلقة بالرجاء. كم من دعوة رُفعت في هذا اليوم فاستُجيبت؟ وكم من عبدٍ أُعتق من النار بسبب دمعة صادقة ودعوة مخلصة؟
وليس غريبا أن يكون هذا اليوم هو اليوم الذي نزل فيه قول الله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا»، فما أعظمه من يوم اختاره الله لإكمال الدين، وتثبيت الملة، وتكريم عباده.
ومع كل هذا، فإن أعظم ما يميّز هذا اليوم أنه أكثر يوم يعتق الله فيه عباده من النار، كما قال رسول الله ﷺ: «ما من يوم أكثر من أن يُعتق الله فيه عبيدا من النار من يوم عرفة».
هو يومٌ تُبدّل فيه صحائف السوء إلى بياض، وتُرفع فيه الدرجات، وتُكتب فيه السعادة الأبدية لمن أخلص النية وأحسن العمل.
يوم عرفة ليس تاريخا في التقويم، بل هو فرصة سماوية نادرة، إذ تتنزّل فيه الرحمات، وتُجبر فيه الكسور، وتُغسل فيه الذنوب. سواء كنت حاجا واقفا على عرفات، أو صائما رافعا كفّيك من بيتك، فلك في هذا اليوم نصيب، ولك من الفضل حظ وافر، إن صدقت النية وخشع القلب.
فاغتنم هذا اليوم، ولا تضيّعه بين غفلةٍ ولهو، فإن الأنفاس معدودة، والأعمار قصيرة، وربّ دعوة في عرفة تُغيّر لك مجرى حياتك إلى الأبد.