فمن الناس من يطلب الحقيقة كما يطلب السراب، يركض خلفها ظانا أنها ماء، فإذا بلغها وجدها وهما. ومنهم من يتخذها صنما، يعبد «ما قيل له»، ويحتمي باليقين المستعار من قوافل السلف، وكأن الحقيقة شاة تسلم من يد إلى يد، لا فكرة تنبع من شقوق الذات حين يضيق بها الجواب. والحق أن الحقيقة لا تمنح، بل تكتسب، ولا تكتسب إلا بثمن. ومن ظن أن الطريق إليها معبد بالقراءات، فقد خدعته ظواهر الورق، فكم قارئ لا يقرأ إلا ما يؤكّد أهواءه! وكم مثقف لا يطلب إلا ما يرضي قبيلته الفكرية! وهذه ليست رحلة إلى الحقيقة، بل عبادة لما يشبهها.
الحقيقة ليست ما اجتمع عليه القوم، بل ما نجا من اجتماعهم. إنها الصوت الذي بُح من كثرة ما قطعت عنه المنابر، والرأي الذي لم يصفق له أحد، لأنه لم يولد في بلاط، ولا رُضع من أثداء الجموع.
إن الذين رأوا الحقيقة لم يروها دفعة واحدة، بل رأوا أطلالها.. أنقاض فكرة، أو ظل تساؤل، أو انكسار قناعة، ثم بدأوا يبنونها في داخلهم كما يُبنى المعنى من خيوط الشك. لهذا كان أعقل الناس من لا يدّعي امتلاكها، وأشدهم ضلالا من ظن أنه يُمسك بها بكفّه كما تُمسك الجائزة.
في هذا العصر، تكثر الأصوات وتقلّ البصائر. الكل يصرخ: «أنا مع الحق» دون أن يسأل نفسه: وهل جردت نفسي من الهوى حتى أراه؟ فإن كانت الحقيقة قديما تُطلب في الخلوة، فهي اليوم تُصلب في الزحام.. في زحام الرأي الجاهز، والعقيدة المعلّبة، والحشد الذي يخاف أن يفكر وحيدا.
فاحذر أن تكون من الذين يدورون حول الأطلال وهم يظنونها الحقيقة. واحذر أن تنبش أنقاضها وأنت لا تملك قلبا يتحمل ما سيخرج منها، فإن الحقيقة لا تُنجي دائما.. لكنها وحدها تنضج.