خلال مسيرتي المهنية، التي امتدت عبر قارات العالم من أقصى الغرب إلى شرقه مرورًا بوسطه، وعبر العمل في سبع دول مختلفة بين أمريكا الشمالية وأوروبا وآسيا، تعلمت دروسًا لا تُحصى. أتيحت لي الفرصة لمخالطة جميع أنواع البشر من جميع الخلفيات والشعوب والديانات، منهم الزين والشين، ومنهم الناجحون إلى الفاشلون، ومن الحكماء إلى المدعين، ومن ذوي الأخلاق الرفيعة إلى المنحطين الذين لا يعرفون للرجولة معنى. ومع ذلك، فإن أحد أهم ما تعلمته هو أن التعميم ظالم؛ ففي كل مجتمع تجد الصالح والطالح.

قد تحتاج هذه التجارب إلى كتاب كامل لسردها، لكن هناك ثلاثة دروس أساسية تكررت بشكل لافت حتى أصبحت أشبه بالقوانين الثابتة في عالم العمل والنجاح.

1 - الدرس الأول القائد أولًا ثم كل شيء آخر


من أبرز الدروس التي تعلمتها أن نجاح أي مشروع، مؤسسة، أو وزارة أو حتى دولة، يعتمد أولًا وأخيرًا على وجود قائد حقيقي. قد تكون العوامل الأخرى مثل الموارد، المال، الفريق، والتخطيط ذات أهمية، لكنها لا تعادل تأثير القائد! دخلت مشاريع بموارد محدودة وأعداد قليلة من الأشخاص، ومع ذلك حققنا نجاحات باهرة لأن القيادة كانت فعالة، وعلى النقيض، شاهدت مشاريع أخرى فشلت رغم وفرة الإمكانيات بسبب غياب القائد الكفء.

وسأضرب مثالا عالميا في الوقت الحالي على القيادة الحقيقية، وهو النجاح الذي حققته السعودية في استضافة كأس العالم 2034 ومعرض إكسبو 2030. قد يظن البعض أن الأمر مجرد جهود فريق أو إمكانيات متاحة، لكن من يفهم كيف تُدار الأمور عالميًا يدرك أن الوصول إلى هذه الإنجازات يتطلب قائدًا استثنائيًا يمتلك رؤية إستراتيجية، قدرة على اتخاذ القرار، مهارات دبلوماسية، ونفوذ عالمي. إذا كانت قد بُذلت جهود جبارة في العلن فإن مثلها تماما من الجهود بُذل من خلف الكواليس، وفي هذه الحالة، كان الأمير محمد بن سلمان هو القوة المحركة خلف هذه النجاحات، بشخصيته القيادية التي تجمع بين الرؤية والطموح والقدرة على التنفيذ. ومع كامل الاحترام والشكر لمجهودات الفريق المناط به ملف كأس العالم 34 أو ملف إكسبو 2030، فإن في العالم الواقعي هناك عوامل أخرى غير الكفاءات والموارد والتخطيط، تتعلق بالسياسة الدولية والدبلوماسية والنفوذ والقوة الناعمة، وهذه تحديات كبيرة تحتاج قائد استثنائي، وعندما تتكلم عن جملة قائد استثنائي على الصعيد الدولي يخطر على البال فورا اسم (محمد بن سلمان) كأنهما متلازمان.

أعتقد أن القائد الحقيقي يتميز بأنه يمتلك سبع صفات رئيسية:

1. رؤية إستراتيجية – وضع أهداف طويلة المدى وتحقيقها.

2. اتخاذ القرار بثقة – القدرة على حسم الأمور في اللحظات الحاسمة، وهذه من أهم صفات أبو سلمان.

3. التواصل الفعّال – إيصال الأفكار بوضوح والاستماع بذكاء.

4. تحفيز الفريق – خلق بيئة عمل إيجابية تُلهم الآخرين، ألم يطلق على السعوديين شعب طويق وعنان السماء.

5. المرونة والتكيف – القدرة على مواجهة التحديات والتغيرات بسلاسة، هذه ربما ستدرس لسنين طويلة قدرة محمد بن سلمان على التكيف والمرونة وتحويل العالم حتى من هاجموه في يوم من الأيام للقدوم له، ويكون قبلة للتواصل وحل مشاكل العالم.

6. المسؤولية والنزاهة – التصرف بأخلاق عالية وشفافية ونزاهة، فهو الأب الروحي لحملة مكافحة الفساد.

7. الذكاء العاطفي – فهم مشاعر الآخرين والتعامل معها بوعي.

2 - الدرس الثاني: لا تحكم بناءً على كلام الآخرين... احكم بنفسك.

من بين أهم الدروس التي تعلمتها خلال 25 عامًا من العمل والسفر والتعامل مع مختلف الثقافات والأشخاص، هو ألا أستند في قراراتي على ما ينقله لي الآخرون، مهما كانت درجة قربهم أو ثقتي بهم. لا شيء يغني عن التقييم المباشر والاعتماد على التجربة الشخصية في الحكم على الأشخاص أو المواقف، وربما الزمن كفيل بإظهار تضارب مصالح خفي في حينه!

التجربة الأولى: التقييم المسبق قد يكون مضللًا

في إحدى المناسبات، قدّم لي أفراد فريقي تقييمًا سلبيًا عن مرشح لوظيفة معينة، بناءً على انطباعاتهم الأولية عنه، لكنني، رغم ذلك، شعرت أن هناك شيئًا لا يتماشى مع قناعاتي، فقررت مقابلته شخصيًا. وعندما جلست معه، فوجئت بعقلية استثنائية تفكر خارج الصندوق، وهو الأمر الذي ربما جعل أفكاره تبدو غير تقليدية للبعض. انضم لاحقًا إلى الفريق، وأصبح من أعمدته الأساسية، حيث قدّم رؤى مختلفة وأفكارًا إبداعية ساهمت بشكل ملموس في نجاح المشاريع.

التجربة الثانية: التشويه المتعمد للحقائق

في مرة أخرى، وجدت نفسي في موقف غريب مع مسؤول حكومي كبير كان قد استاء من بعض المقالات النقدية التي كتبتها و نُشرت عن وزارته. عندما التقيت به، بدأ يسألني أسئلة لم تكن منطقية، مثل ما إذا كنت خريج كلية الإعلام، وإن كنت قد تقدمت بطلب للعمل في وزارته في قسم الإعلام، وتفاجأت بهذه الادعاءات، لكن المفاجأة الأكبر كانت في رد فعله عندما علم أنني في مجال مختلف كليا (طبي) وأنني طبعا لم أقدم على أي وظيفة في وزارته، لأني أعيش خارج المملكة منذ عقود!

كان واضحًا أن فريقه قد صاغ له رواية مغلوطة وحوّل الأمر إلى هجوم شخصي في محاولة لحرف الأنظار عن مراجعة النقد الوارد في المقالات بموضوعية. هذه التجربة عززت لديّ القناعة بأن الاعتماد على ما يُنقل إلينا دون تحقق قد يؤدي إلى قرارات غير دقيقة، وأحيانًا إلى ظلم أشخاص أبرياء.

وهناك تجارب أخرى عديدة وبعضها فعلا يصيب بالصدمة والغرابة لكن الخلاصة: استخدم عقلك وعينيك وأذنيك، الله منحنا العقل، والسمع، والبصر، لنكوّن أحكامنا بأنفسنا، فلا يجب أن نؤجر عقولنا للآخرين. سواء أكنت تدير مشروعًا، أو تتخذ قرارات مصيرية، أو حتى تتعامل مع علاقاتك الشخصية، فإن القاعدة الذهبية هي: استمع، ولكن لا تحكم إلا بعد أن ترى وتختبر بنفسك.

الدرس الثالث : أسوأ أنواع البشر... من لا يُرجى صلاحه، قد يظن البعض أن أسوأ الأشخاص هم الأعداء أو الحاسدون أو حتى من يهاجمونك علانية، لكن من خلال 25 عامًا من التجربة، أستطيع أن أؤكد أن أكثر أنواع البشر سوءًا، والذي يصعب إصلاحه، هو البخيل. نعم البخيل وليس المقصود هنا فقط البخل المادي فقط، بل البخل في كل صوره وما يتبعه ويلحقه من صفات رديئة، الحسد والغيرة والجشع وبخل المشاعر، بخل الفكر، وبخل النجاح على الآخرين، وحتى البخل في الاعتراف بجهود الغير.

البخل... هو أصل الشرور، البخل ليس مجرد سلوك سيئ، بل هو تشوه في النفس البشرية يصعب علاجه، حاليا ربما قد نستطيع تعديل الشيفرة الجينية للإنسان رغم صعوبتها، لكن البخل هو تشوه في جوهر النفس وصعب جدا علاجه!، وجدت أن البخل يجلب معه كل الصفات السلبية وكأنه مغناطيس يجذبها: الحسد، الحقد، الكذب، الغيرة، والانتهازية والطعن.

قد أستطيع التعامل مع سبعة أعداء شرفاء، لكن لا يمكنني الوثوق بصديق بخيل، لأن بخله يجعله غير أمين في مشاعره وتصرفاته، وسيطعنك في ظهرك يومًا ما. إذا واجهت في عملك شخصًا وصوليًا أو متملقًا، لا تحكم عليه فورًا، بل انظر إلى مدى كرمه أو بخله. فقد يكون مضطرًا للتملق بسبب ظروفه، لكنه قد يظل شخصًا كريمًا في جوهره، ما يعني أنه قد يتغير للأفضل. أما إذا كان بخيلًا، فاعلم أن البخل هو أصل تصرفاته السلبية، وبالتالي لن يتغير.

الأمر نفسه ينطبق على الكذاب وغيره، هناك فرق بين كاذبٍ اضطر للكذب تحت ضغط موقف معين، وبين كاذب بخيل في جوهره، يلفق الأكاذيب بدافع الأنانية أو الحسد أو الرغبة في الاستحواذ على كل شيء لنفسه. ببساطة الكرم يغطي العيوب... والبخل يكشفها. الكرم ليس فقط في المال، بل في التعامل مع الآخرين، في دعمهم، في إعطائهم حقوقهم، وحتى في الاعتراف بفضلهم، وقد يكون الإنسان فقيرًا ماديا ، لكنه كريم في أخلاقه ومعاملاته، وهذا يجعله شخصًا يمكن الاعتماد عليه وعلى العكس، البخيل حتى لو امتلك كل شيء، ستجده يبخل في الكلمة الطيبة، في التقدير، وفي الدعم، ما يجعله شخصًا سامًّا في أي بيئة عمل أو علاقة. الخلاصة:

لا تضع في فريقك تفاحة فاسدة، لا تدع البخلاء يقتربون منك، ولا تجعلهم جزءًا من فريقك، لأنهم سيفسدون كل شيء عاجلًا أم آجلًا. قد تتعامل مع أشخاص لديهم عيوب مختلفة، لكن طالما كانوا كرماء في جوهرهم، فهم قابلون للإصلاح والتطور. أما البخيل، فهو شخص لا يُرجى صلاحه، لأنه ببساطة لا يمتلك شيئًا ليعطيه، حتى لو ادّعى عكس ذلك.

خاتمة: هذه الدروس الثلاثة ليست مجرد أفكار نظرية، بل قوانين حياتية اكتسبتها من معايشة شعوب مختلفة، والتعامل مع شخصيات من مختلف الثقافات والخلفيات. النجاح في الحياة والعمل يتطلب قائدًا حقيقيًا، وعقلًا مستقلًا لا يعتمد على كلام الآخرين، وحرصًا على تجنب البخل وما يتبعه من صفات وأهله.

إذا تمكنت من فهم هذه الدروس الثلاثة وتطبيقها، فأنت بالفعل قطعت شوطًا كبيرًا نحو تحقيق النجاح في أي مجال تخوضه.