بعد منتصف ستينيات القرن الماضي أنهيت المرحلة الابتدائية من مدرسة سبت تنومة الابتدائية، وكنت أرغب وبعض الزملاء من أبناء تنومة مواصلة الدراسة في المرحلة المتوسطة، فكانت النماص هو الأقرب لنا. ولبعد المسافة فلابد من السكن في النماص. تطلب ذلك استئجار السكن (معروف بغرف أبو زندة).

سكنت في السنة الأولى عند زوج اختي، ثم انتقلت للسكن عند عبدالرحمن بن صخيف - رحمه الله - حتى نهاية المرحلة المتوسطة. المدرسة مبنية من الحجر والطين والمالك هو عبدالعزيز بن زاهر العسبلي - رحمه الله- وهي عبارة عن مبنى مكون من ست غرف استخدمت فصول دراسية، ثلاث من الجهة الغربية والثلاث الباقية من جهة الشرق، وبينهما ممر يوصل للباب الرئيس الذي كان يستخدم للدخول والخروج من وإلى الفصول، حيث كان الحارس سبأ مبروك - رحمه الله - يتحكم في الدخول والخروج من هذا الباب، وكان ضخم البنية لا يتكلم كثيراً ولا يسمح لأحد من الطلاب بالخروج إلا بإذن. وإلى الشرق من المبنى توجد ساحة تكفي للطابور الصباحي للطلاب والمعلمين وللحفلات المدرسية. وفي الطرف الجنوبي الشرقي لتلك الساحة غرفة مستطيلة تضم مكتب مدير المدرسة محمد بن ظافر بن متعب - رحمه الله - و المساعدين تركي بن شاكر العسبلي و محمد بن أحمد الحفظي. والدراسة على مدار الأسبوع ما عدا يوم الجمعة، ويستخدم المكان الخالي الواقع خلف المدرسة (مرابط) خاصه للحمير التي يستخدمها الطلاب البعيدة منازلهم عن المدرسة وهي (القرى التابعة لبني مشهور وقرى قبائل كنانة وصدريد وآل بن رياع). أما المدرسون فهم من عدة جنسيات.

ولصغر سننا في ذلك الوقت كنا نشعر بالحنين والشوق لرؤية أهالينا بصفة مستمرة، ففي أحد الأيام قررت وأحد زملائي الذهاب إلى تنوةمه لرؤية الأهل والأقارب، ولأن الطريق المستخدم في ذلك الوقت ممسوح بواسطة المعدات ويتعذر استخدامه باستمرار وخاصة أثناء هطول الأمطار وكان ذلك أحد أسباب قلة السيارات في المنطقة إذ لا تتعدى أصابع اليد، وبالتالي فإن الذهاب إلى تنومة لا يتم إلا بواسطة الحمير أو مشياً على الأقدام، و اتفقت مع زميلي أن نستأجر حميرا توصلنا إلى تنومة. فاتجهت إلى صاحب أحد البيوت في القرية واسمه أحمد يملك حمارا وكثيرا من الغنم والبقر . البقر والحمار في الدور الأرضي، وهو وعائلته يسكن في الدور الأول والغنم في الدور الثالث. وفي اليوم التالي قابلت زميلي وقلت له " ابشرك لقيت حمار"، فقال " أما انا فما قدرت القى حمار"، فقررنا الذهاب إلى تنومه مشياً على الأقدام. بدأنا التحرك بعد ظهر الخميس من لقبال (سوق قبيلة بني بكر) في ذلك الوقت، باتجاه الجنوب، وأول مرورنا كان بارض قفراء خالية من البشر (مكان اسمه شحر) به الآن المستشفى والفنادق والفلل والشقق السكنية، ثم واصلنا المشي حتى دخلنا قرى بني مشهور وبين القرى شاهدنا امرأة واقفة في (قف البير)، ومعها قربة ودلو تستخدمه لاستخراج الماء من البئر ، شعرنا بالعطش فاقتربنا منها وقلنا لها بصوت واحد " سلام عليش ياعمة"،اعمارنا في ذلك الوقت لا تتعدى الثلاثة عشر عاما. فردت علينا " وعليكم السلام مذا ودكم به يا بثوري"؟ فقلنا لها "ودنا نشرب ماء". فقالت "بيعنكم اطلعوا هنيه في القف" ،فطلعنا واسقتنا الماء بالدلو، ثم حملت قربتها على ظهرها واتجهت إلى بيتها ونحن اتجهنا جنوبا.


وفي الطريق شاهدنا عين آل ايدي على يميننا وقرية آل ايدي على اليسار، ومشينا حتى وصلنا " الظهارة"،وبعد أن تجاوزنا قرية " الميفا" كانت بداية النزول مع عقبة القامة، ومنها كانت بداية قرى تنومة حيث تشاهد قرية المركبة على اليمين، وأثناء الاستمرار في المشي بدأ الإرهاق والتعب والآلام تسري في أجسامنا وبالأخص عضلات الارجل والاقدام، وكنا قد وصلنا إلى وادي مليح وكانت الشمس على وشك المغيب، ثم واصلنا السير، حيث غابت الشمس ونحن في قرى " بني لام " وعند الوصول إلى قرية "آل مجادب" كنا نسير في ظلام دامس وأخذ الخوف يتملكنا ،وعند وصولنا إلى الجامع الكبير قرب سوق السبت ودعت زميلي (فايز) ثم اتجه كل منا إلى منزله سالماً.

لتبدا رحلة العودة إلى النماص في اليوم التالي بعد صلاة الجمعة وكانت متعبة وصعبة. وهذا يوضح الصورة الحقيقية لمعاناتنا في ذلك الوقت. كان الصبر يلازمنا طيلة ثلاث سنوات حتى حان موعد الأفراح بعد سماعنا لصوت المذيع بالراديو وهو ينطق أسماءنا ضمن الناجحين في مدرسة النماص للحصول على شهادة الكفاءة المتوسطة، حيث أطلق أباؤنا النار في الهواء احتفاءاً بنجاحنا، ليصبح صوت إطلاق الرصاص مدويا في جبال تنومة، و عمت الفرحة الجميع.

الغالبية ممن تخرجوا من تلك المدرسة واصلوا الدراسة في الثانوية والجامعات داخل وخارج المملكة، واصبح منهم الأطباء والمهندسون والطيارون والضباط، ووصلوا إلى أعلى المراتب.