من طبيعة النفس البشرية ميلها لإثبات صحة وجهة نظرها وماترى انه حقيقة ، ولايتحرر من هذه النزعة إلا من حرر عقله من الهوى وحظوظ النفس بقبول الحق حتى لو كان ممن يخالفه ويختلف معه. فالإختلاف أمر صحي ومفيد وأرض خصبة لنمو الأفكار وتلاقحها ، وهو فرصة لتحفيز العقل على التأمل والبحث والتأني في الحكم على الحقائق والإحتمالات، وتمحيص الأفكار من العادات العقلية التي تتلبس الحوارات حال الإختلاف .

في بعض مجالسنا حواراتنا جامدة بلاروح وليس فيها منطقة رمادية حرة لتنشيط الذهن ولتعطي فرصة للمحاور المتلقي بالتفكير العميق المتأمل، وبالنقد والتساؤل ليتخلى عن الأفكار الجاهزة والقناعات المسبقة بعيداً عن التقليد والتبعية العمياء. وأحيانا طرح الأفكار بشكل مباشر قد لايلاقي القبول أو الإستيعاب من الطرف الآخر وكأن الفكرة مفروضة عليه وبذلك ربما يصر على فهمه ومايعتقده. ولكن هذا الشعور سيتلاشى حينما نؤمن بوجود مساحات مشتركة بيننا في حواراتنا نتفق عليها، كإيماننا بوجود مساحات للإختلاف ، والتي لولاها ماتحاورنا وشعرنا بحاجتنا للحوار مع الآخر، ولكن تعزيز وتفعيل المساحات المشتركة إبتداءً يحقق الأهداف المرجوة من الحوار، ويجعله مستمرا مؤثرا وذو قيمة وفائدة .

التساؤل وطرح الأسئلة مهارة عقلية ، والتفكير المحكم والإصغاء بفهم يقودنا للحكمة ، وعندما نبدأ حواراتنا بما نتفق عليه فنحن حينها نعطي رسالة مباشرة لمحاورنا ونشعره بأحقيته وإثباته لبعض النقاط التي يعتقدها في الحوار، وبذلك يكون مرناً ومهيئاً للإعتراف والقبول بكل شجاعة بأفكار وآراء كان يرفضها بتعصب. وهذا النهج في الحوار كان يتبعه معلم اليونان الأول سقراط عن طريق ( التهكم / والتوليد ) دون الاكتفاء بتلقين الناس وتعليمهم لتخليص العقول من الجهل والزيف وإعدادها لقبول الحق والوصول اليه. حيث كان يعطي انطباعاً بالرغبة في التعلم ويتصنع الجهل ويتظاهر بعدم معرفة الشيء والتسليم لأقوال محاوره ، فكان يلقي عليه الأسئلة بترتيب منطقي يساعده على التمييز بين الخطأ والصواب للوصول للحقيقة وكأنه من ولدها واكتشفها بنفسه ! وهذه الحقيقة في واقع الأمر كامنة في النفس البشرية ولكنها بحاجة لمن يغوص في أعماقها ليظهرها بكل تجرد وعقلانية .وهذا هو أسلوب الحوار التوليدي عند سقراط ، والتهكم هنا ليس كما يعتقده البعض بأن معناه السخرية من محاوريه وخصومه، بل هي التظاهر بالجهل - كما ذكرنا - والتحول من دور المعلم والأستاذ إلى الإستماع وإثارة الأسئلة. وهنا تكمن فضيلة التهكم الاخلاقية. فلكي تنجح حواراتنا لابد ان نعطي من نحاورهم فرصة للتفكير لمراجعة المعتقدات وتأمل الأفكار والآراء وتقليبها في الأذهان، للوصول للحقيقة الخالية من الخرافات والأوهام، من خلال المساحات الحوارية المشتركة مع من نحاورهم .