تقدم وسائل الإعلام الأمريكية صورة سلبية للغاية عن الرجل العربي، وتنسب إليه جريمة لا تغتفر في الأخلاق البروتستانتية، ألا وهي أنه ( قد أنشأ الحريم). فالعربي صاحب هذه الفكرة المستهجنة في الأخلاق المسيحية المتشددة، والقائمة على اتخاذ العديد من النساء شرعًا کشریکات جنسيات.

ولو قرأنا كتب التاريخ، لاكتشفنا أن العرب لم يكونوا آباء الحريم. فقد عرف الحريم الامبراطوري في تاريخ المتوسط قبل 700 عام على ظهور الإسلام، لدى الإغريق والرومان على حد سواء، وسيكون هؤلاء مثالًا للخلفاء والسلاطين المسلمين.

ففي الواقع، لقد ظهر الإسلام في القرن السابع، وكان الإغريق يمارسون الحجر على النساء قبل أحد عشر قرنًا بما أن الحريم كان معروفاً في أثينا خلال القرن الخامس قبل الميلاد: «كان الفصل بين الجنسين منظماً في المكان؛ ففيما كان الرجال يمضون سحابة نهارهم في الأماكن العامة كالأسواق والقاعات الرياضية، كانت النساء المحترمات يمكثن في منازلهن. وفي حين كانت الأماكن العامة تلك الأماكن الرائعة التي نعرفها، فقد كانت الأحياء السكنية في أثينا، أثناء الحقبة الكلاسيكية مظلمة وقذرة وفقيرة. وكان العديد من العائلات يملك أمةً على الأقل... وكان شائعًا أن ترسل نساء الأغنياء عبيدهن للتسوق، ولكن النساء الفقيرات اللواتي لا يملكن العبيد لا يتمتعن بامتياز الحجر...»، وبالتالي، كانت أثينا في الحقبة الكلاسيكية (400 - 300 قبل الميلاد) تملك هندسة معمارية للحريم، يحدد فيها الفصل المكاني لكل جنس موقعه، ويحتجز النساء في نطاق محدد: كان الفصل بين الجنسين يظهر في تصميم المنازل من خلال إنشاء مساحات مخصصة حصرًا للرجال أو للنساء. وكانت النساء تقطن في الغرف الخلفية، بعيدًا عن الشوارع وواجهة المنزل التي كانت تعتبر مكانًا عامًا. وعندما يكون المنزل مؤلفًا من طابقين، تقيم المرأة وإماؤها في الطابق السفلي». كانت الزوجات الحرائر يحتجبن عن أنظار الرجال، ما عدا الأقارب، وكان تسلل رجل إلى حميمية امرأة حرة متزوجة برجل آخر، يعتبر جريمة. وقد رأينا أن الخدر gynécée من اليونانية gunaikeion يدل على جناح النساء في المنازل الإغريقية والرومانية.


وإلى جانب الحجر على النساء، نصادف لدى الإغريق والرومان العنصر الثاني الذي يتألف منه كل حريم يستحق هذا الاسم، أي وجود الإماء المتفرغات لمتعة السيد الجنسية واللواتي يتمتعن بموقع الخليلات بالإضافة إلى الزوجات الحرائر.

وقد سار الرومان على خطى الإغريق في إنشاء الحريم والحجر على النساء لدى علية القوم، وإن كانت الرومانيات أكثر حرية وتحررًا. ويرى كورنيليوس نيبوس، وهو كاتب عاش في القرن الأول قبل الميلاد، أن الاختلاف الوحيد بين نساء أثينا الكلاسيكية ونساء روما أن الأخيرات كن يتمتعن بالمزيد من الحرية، ويحق لهن مرافقة الزوج إلى الحفلات العامة. وكانت ظاهرة الرقيق معروفة كذلك لدى الرومان، وعددهم يعكس ثروة وقوة السيد الذي يملكهم وكانت الإماء متفرغات جنسيًا لمتعة السيد. وكما لدى الإغريق، يعتبر الطفل الذي يولد من الأمة والسيد رقيقًا.

وبالتالي، ليس العرب آباء الحريم. فقبل ظهور الإسلام، كان العرب يعيشون في فقر مدقع لا يسمح لهم بالحصول على حريم فكانوا يطمعون بالامتياز الذي يتمتع به جيرانهم البيزنطيون الأقوياء الإمبراطورية الرومانية في الشرق ويعدونه ترفًا. وقد استوردوا هذا الحريم كما نستورد اليوم السيارات الفارهة، حالما وضعهم الإسلام في مصاف القوى العظمى. أما هارون الرشيد الذي كان له الامتياز بتهديد القسطنطينية قبل غيره عام 181 هجري (797 - 798 م)، فسوف يذكره التاريخ على أنه الخليفة الذي ارتقى بالحريم العربي إلى أعلى درجات الترف، وحطَّم رقمًا قياسيًا باقتنائه ألفي جارية أحضرهن من البلدان التي قام بفتحها. ولئن قام العرب بمحاكاة حريم الإغريق والرومان، فهم لم ينقلوه حرفيًا وبغباء، بل بادروا إلى تجديد هذه المؤسسة وتحسينها لاسيما بالنسبة إلى مساواة الجارية وحقوقها، خصوصًا لجهة وضع ابنها الذي تنجبه من رجل حر. وخلافًا للأسياد الإغريق الذين لا يعترفون بالأبناء الذين ينجبونهم من الإماء كما يعترفون بأبنائهم من الحرائر، كان العرب يعترفون لأبناء السراري بكامل حقوقهم. ولا يعتبر هذا التفصيل ثانويًا بل لقد اكتسب أهمية فائقة في أسلوب تعاطي الحضارة الإغريقية والرومانية، ومن ثم الغرب الحديث الذي ينتمي إليها، مع العبودية والعنصرية. فقد كان بمقدور السبايا الأعجميات في حريم هارون الرشيد إطلاق العنان لطموحهن برؤية ابنهن خليفة، ووريثًا لعرش أبيه، وحاكمًا على الإمبراطورية الإسلامية. أما هذا الأمل فكان محرَّمًا تمامًا على جارية الإمبراطور الإغريقي أو الروماني. وحتى لو نالت هذه الجارية حظوة الإمبراطور وأمضت ليلة معه، فالطفل الذي قد تثمره هذه العلاقة كان لقد تسنى للعديد من أبناء الجواري الأعجميات محكومًا بالبقاء عبدًا.

(أي السبايا اللواتي أحضرهن الخلفاء كغنائم حرب من الأراضي التي فتحوها في آسيا وأفريقيا وأوروبا) اعتلاء عرش الخلافة. وبما أن امبراطورية بيزنطية الرومانية كانت أقرب جار وخصم للعرب، فقد كان تدفق الجواري الروميات عقب الفتوحات العربية لافتًا. وهكذا، أصبح الكثير من الأبناء نصف الروميين خلفاء بدورهم، وحكموا الإمبراطورية الإسلامية، وهو أمر لم يكن واردًا عند الإغريق والرومان، وقد عرفنا أن والدة الخليفة المأمون، ابن هارون الرشيد، كانت (رومية). وهنا، نلمس فرقًا هائلًا ونقع على مفارقة غريبة بين الإغريق الذين صاغوا مفهوم الديمقراطية الغربية، وكانوا في الوقت نفسه، يمارسون الاسترقاق بأشكاله القصوى، وبين العرب الذين تمايزوا منذ البداية بموقفهم اللافت المناهض للعبودية بفضل إيديولوجيا الإسلام.

لقد كان العرب قبل الإسلام يضاهون الإغريق عنصرية، ويرفضون إعتاق ابن الجارية. ولكن الدين الإسلامي الذي ظهر على أراضيهم، واعتبر حاملًا لرسالة عالمية هو الذي قام بتحرير ابن الـجـاريـة. ويبدو أن عنصرية عرب الجاهلية قد تراجعت مع العباسيين، وحلت محلها الشمولية التي هي جوهر الإسلام. وقد تفوق العباسيون في مجال اختلاط الأعراق والثقافات، وأتاحوا للإسلام تجاوز أصوله العربية، ومنح الفرص المتكافئة لكل أبناء الخليفة أيًا كان وضع أمهاتهم. ومما يدعو للمفارقة أن الإسلام تمكن منذ القرون الوسطى من إنشاء مجتمع متعدد الثقافات، وهو مفهوم لم يستوعبه الغرب لفترة طويلة بالرغم من الإنجازات العظيمة التي حققها في مجال حقوق الإنسان. ولا ننسى أن السيد الأبيض الذي كان يقيم علاقة أمة سوداء في المزارع الأمريكية لم يكن يعترف بابنه قط. وكان هذا الطفل الأمريكي يعتبر عبدًا. ونحن نعرف أن إحدى المشاكل التي لا تزال تواجهها أمريكا، هذه الدولة العظمى، وتعجز مع عن حلها حتى في أيامنا الحاضرة، تتمثل في اندماج السود، علمًا بأن هذه الدولة قد اضطلعت منذ نهاية الحرب الباردة بالدفاع عن حقوق الإنسان ومبادئ الديمقراطية.

1987*

* باحثة وكاتبة أكاديمية مغربية «1940 - 2015».