هذا الصراع الأقدس، الذي أطلق الشعب اللبناني من وعيه الحر إعصاره، مضى هادرا يزرع السفوح والروابي بالبطولات ويحمل إلى الدنيا - ما اتسعت الدنيا - الشهداء، وتهاويل الكبرياء، والتلاوين العبقرية للإرادة المتحدية المنتصرة. ثم ينعطف انعطاف قوس على الدهر، قاعدة له على الآفاق، وقاعدة له على الخلد،

وكان آخر، انبلج فجره في ليلنا الدامس يدفق بالأضواء فانكفأت هنالك شمطاء العهد بومة شوهاء، ترهب النور ويعشي مقلتيها الضياء.

وفخر هذا اليوم البطولي، أنه جاء تصحيحا ليوم بطولي قبله، فذاك أشار إلى أن لبنان ذو وجه عربي، وهذا أعلن في سمع الدنيا: أن لبنان ذو حقيقة عربية. على أن ذاك حرر لبنان من مستعمر على نحو ولون، وهذا حرره من الاستعمار على كل نحو وكل لون.


وهو - وإن اقترن هونًا ما بتنازع الفرقاء - كان لخيرهم جميعًا، وكسبًا لهم جميعًا، فأمريكا استقلت من مستعمر بعد تضحيات حمراء مثلما استقللنا، ولكنها لم تولد حقًا إلا بعد موران عاصف اتصل هبوبه بين شمال وجنوب، وأعني بعد مخاض لعله كان شاقًا عسيرًا، ولعله كان داميًا رهيبًا ومع ذلك جاء معقد الخير كله، لأن في ساحته ولدت الوحدة الأمريكية مولد السبيكة من البوتقة ولبنان، وقد استبد به مثل هذا المخاض، كان بشيرًا. بميلاده الحق، ميلاد وحدته الوطنية دون نزوات شمال وجنوب، وأعني دون نزوات طائفية القته في التيه عن حقيقته وطبيعة وجوده، زمنًا طويلًا.

ولقد سجل هذا اليوم فخرًا آخر: وهو أنه على صعيد لبنان جرت المعركة الحاسمة الفاصلة، للقومية العربية المنطلقة جميعًا إلى حيث تتبوأ مقعدها لتملي التاريخ من جديد، وأعني إلى غدها الأفضل الذي ترى فيه وجه أمسها الأفضل، كلاهما كسب حضاري، وإثراء إنساني، وتنضير يمسح وجه الأرض بالجمالات.

وفوق ذلك كله كان ليوم لبنان، فضل هذا الظفر الجديد الذي جسد القومية العربية تجسيدًا دوليًا، وكرسها تكريس الواقع التاريخي، في أكبر أندية الحق الدولي، كما هتك الأقنعة والحجب عن بادرة العدوان الأمريكي، وأنها لم تصب المثل الديمقراطية الرفيعة في الصميم فحسب، بل أصابت أول ما أصابت المثل الأمريكية التي تبجح بها في الدنيا حقًا، لقد انتحرت أمريكا هنا على عتبة عدوانها.. أجل لقد انتحرت بصغار فاجع، وداست باستخفاف البطولات التي شاءت أن تدفعها يومًا إلى قافلة الأحرار، وركب الساعين إلى الانعتاق والانتصار، ومشت على رفاة أقداسها في الحرية مشية الاستهتار وسعت بالحديد والنار، التوطيد دعائم الاستعمار، وهكذا مسخت معنى الحرية في تمثال حريتها، واستبدلت له بإكليل الغار، إكليل العار فيا رجل المتاريس: الذي لوحتك الشمس، إنما هي لثماتها على جبينك، ليظل جبينك مثل جبينها ينابيع أضواء. ولسوف يذكر لبنان، لبنان كله، أن من بين أناملك العشر تفجر خصب قلبه.

ولسوف يذكر أيضًا: أنك أنت الذي صمدت في الدروب أمام المخاوف لم تكن المروع، وإنما شققت بمنكبيك الدروب بين يديه إلى مجده.. وكان عطاؤك سمحًا وكان بذلك كريمًا (والجود بالنفس يعني غاية الجود). وقسمًا بتراب متاريسك، هذه الشائكة، أن لبنان في غده القريب سينحني في تذكاراته الكبرى أمامها رمزًا من رموز المحبة، لأنها كانت رمزًا من رموز الخلاص.

1958*

* لُغَوِيٌّ وَأديب لُبْنَانِيٌّ «1914م - 1996».