تشرب الدموع كما الخمر
على لوحٍ طيني يعود إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد. كٌتبَ عليه «تشرب الدموع كما الخمر» وتعود هذه المقولة إلى قصة الآلهة «عنات» عندما سمعت نبأ وفاة أخيها. «وأظهرت الترجمة العلمية المعتمدة أن عنات أتخمت نفسها بكاءً حتى صارت تشرب الدموع كما الخمر». يستشهد لوتز من هذه القصة بأن البكاء يشعرنا بالشبع وكذلك بالثمل. نجد فيه اللذة والسلوان والراحة. حتى دعا «الفكامبي» إلى الله «اللهم هبني لطف دموع.. امنحني هبة الدموع». كما عندما يتحول المٌر إلى حلو. باعتبار أن هذا الوصف لا ينطبق على البكاء الجسدي الناتج عن آلامه بلا أي أفكار أو شعور. الذي يراه الكاتب بأنه يهين الإنسان ويحط من قدره. بل البكاء الدارج تحت مسمى «النحيب الأخلاقي» الذي ينبع من خواطر الذهن وخوالج القلب الطبيعية، وبذلك يكرّم النفس البشرية. و نجد في الكتاب عشرات القصص الأسطورية والحقيقية التي تناولت علاقة الإنسان بالبكاء. التي اتحد فيها جميع الباكين بسمةٍ واحدة. وهي استقبال ألم الدموع برحابة ووفاء، والانغماس بها كلحظةٍ أبدية، كأنه ضيف قديم لا نرغب بوداعه. ولكن ما الذي يجعلها بهذه اللذة؟
كان البكاء لذيذًا
يروي الكاتب القصة الشهيرة «الشقراء الكبيرة» للكاتبة «دوروثي باركر»، التي تناولت فيها كيف يمكن للبكاء أن يشعرنا بالمتعة عندما نعيش انفعالات العاطفة. بطلتها (هيزل) التي تدمن ملذات الانتحاب.
«كل الأحزان كانت أحزانها» كذلك وصفتها باركر. لتروي لنا بكاءها عندما تستمع لأخبار الأطفال المختطفين، والعاطلين عن العمل، والقطط الضآلة، وبكاءها على حياتها الزوجية، ومرض الدوالي المصابة به. ليصبح البكاء أمرا اعتياديا بالنسبة لها ولمن حولها. لتكتب باركر «كان البكاء لذيذًا». وبهذه الحبكة الرائعة، استطاعت أن تشعر القارئ بأن القسوة تبدو طبيعية ولذيذة رغم المأساة.
ويتفق على ذلك «جيمس» في كتابه (مبادئ علم النفس) قائلًا: تقع الإثارة في أثناء حدوث نوبة من البكاء لا تخلو من متعة حادة خاصة بهذه النوبة. واصفًا بأن الحزن الجاف أي الخالي من البكاء «غير ممتع بشكل دائم».
كما يرى لوتز أن هنالك علاقة مباشرة بين اللذة والقسوة، سواء اعترفنا بذلك أم لا. الذي لخصّها المثل الأمريكي «الدموع عقوبات طبيعية للمتعة». وتظهر هذه الرغبة الخفيّة بنا عند استمتاعنا بأغنيةٍ حزينة، أو قراءة قصة حزينة كقصة «هيزل» مثلًا. وبذلك يلعب الفن دورا هاما في إشباع هذه الرغبة.
الدموع في الفن
تعتبر التراجيديا أعلى مرتبةٍ فنية. لكونها تصور انفعالات الإنسان مع صراعاته. ذكر أرسطو مصطلح«التطهير» في مناقشته حول التراجيديا. قاصدًا بأن التراجيديا لا تثير المشاعر بنا بل تقوم بتقنيتها وإزالتها، وإشباع الرغبة غير المعترف بها أحيانا وهي اللذة عند مشاهدة الألم. وإن كانت التراجيديا تثير الشعور، ولكنها في نهاية الأمر تنقيه أيضًا. «ليصبح العقل خاليًا من تقلبات العواطف الإشكالية». «إن الدموع التي نبكيها في التراجيديا هي علامة على أننا ننظف منزلنا النفسي».
كذلك وضع الكاتب العديد من الأعمال الفنية التي تدور حول البكاء، كفيلم «أناس عاديّون»، « وأمير البحار» لباربرا سترايسند الذي يتناول العلاج عن طريق البكاء»، ومذكرات العالم السفلي» لدوستويفسكي، وقواعد «بيت التفاح» لجون إيرفينغ، وكيف تخفي الدموع بطريقة رجولية في" الأوديسة» للشاعر هوميروس. والعديد من القصائد. يطري الشاعر الألماني «شليغل» الدموع (الكلمات ما هي؟ دمعة واحدة ستقول أكثر منها جميعًا).
* تناول أيضًا أشكال الدموع. كدموع الانتقام، والإغواء، والهروب، والتعاطف. بوصفٍ دقيق لكل منهم.
كما تطرق للدموع في مختلف ثقافات الشعوب. كالناحبات، وثقافة الحداد، وبكاء الرجال. كونها «شكل نسبي مكتسبة اجتماعيًا». وجد الكاتب في إطلاعنا عليها، محاولة منّا «لفهم الحياة العاطفية في ثقافاتنا أو الثقافات الأخرى».
يسأل لوتز في نهاية الكتاب. «من سيكتب تاريخ الدموع؟ ثم أجاب «كلنا سنقوم بذلك».
توم لوتز (Tom Lutz)
أكاديمي أمريكي
جامعة ستانفورد
ولد في 1950
عمل في جامعات:
كاليفورنيا
(ريفرسايد)
كوبنهاغن
آيوا
معهد كاليفورنيا للفنون