لا شكَّ بأنَّ الفضاء الثقافيّ هو تتويجٌ لعمليّة التلاقُح بين الفضاءات المُختلفة، الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة وغيرها، بحيث تتكامل جميعها وتُنتِج ما نُسمّيه الحضارة. وقد أكدَّ العديد من الفلاسفة وعُلماء الاجتماع على أهميّة هذا التكامُل، وكان العلّامة ابن خلدون رائداً في تبنّي هذه الفكرة عندما أسَّس عِلم العمران، الذي هو نتاج «عقل جديد» وعمليّة متواصلة تَستغرق عمر الشعوب كلّها، بماضيها وحاضرها ومستقبلها، مع تأكيده على مفهوم النسبيّة الاجتماعيّة في نظريّة «أطوار المُلك»، حيث إنَّ العمران الحضاريّ لا يستمرّ إلى ما لا نهاية، بل يخضع للديناميّة الحضاريّة، من ضمن حركةٍ دائريّة مستمرّة، فتكون نابذة حيناً وجاذبة أحياناً أخرى.

كما أنَّ المعرفة ترتبط في نموّها بنموّ البنية الاجتماعيّة، إذ إنَّ الشكل البدوي يتلازم مع معرفةٍ تدور في فَلَكِ هموم المعاش، فيما الحضري يتلازم مع أشكال الفنون والآداب والإبداع بهدف تأمين الرفاهيّة لحياة المُجتمعات؛ فهل تنطبق قاعدة الديناميّة «الخلدونيّة» على مدينة طرابلس اللّبنانيّة التي تعيش اليوم تجلِّيات اختيارها كعاصمةٍ للثقافة العربيّة للعام 2024؟ الديناميّة الجاذبة والنّابذة

بالطبع لم يكُن اختيار المدينة اللّبنانيّة التي تُشرف على الحوض الشرقي للبحر المتوسّط محضَ صدفة، بل جاء الخيار انطلاقاً من كونها مدينة مُتجذِّرة القِدَم في عُمق التاريخ البشري، حيث تُشير المصادر التاريخيّة إلى أنَّها تمتدُّ إلى ثلاثة آلاف عام؛ فكانت عاصمة الفينيقيّين لاتّحادهم الفيدرالي، وتعاقبت عليها الحضاراتُ السلوقيّة والرومانيّة والعربيّة والصليبيّة والمملوكيّة والعثمانيّة والفرنسيّة. وقد حظيَتْ في العصر المملوكي (1250 م - 1517 م) باهتمامٍ كبير (ثاني أكبر مدينة مملوكيّة بعد القاهرة)، فكانت مركزاً للعِلم والثقافة والتجارة في بلاد الشام، ومركزاً حضريّاً عمرانيّاً بعدما أسَّسَ أُمراؤها وعلماؤها وتجَّارها في حينه العديد من المدارس والمكتبات والمساجد والخانات والأسواق والحمَّامات، وتَوافَد إليها الطلّاب والمعلّمون من مختلف الأقطار الإسلاميّة حتّى لُقّبت بــ «دار العِلْم» في عهد بني عمّار، وكانت مَكتبتها تضمّ آلاف المخطوطات التي تُنافِس في غناها مكتبة بغداد.


إنَّ الواقع الميداني للمدينة الآن يُشير إلى تراجُعٍ حضاري كبير، فالانعطاف المَعرفي الــ U Turn بدأ مع نهاية الحقبة المملوكيّة، واستمرَّ بعدها في الحقبة العثمانيّة حيث كانت الثقافة نَقْليّة تقليديّة بعيدة عن المفهوم العمراني «الخلدوني»، هذه المدينة التي كانت عاصمة لولاية طرابلس، الممتدَّة من طرطوس شمالاً إلى جونية جنوباً صعوداً إلى جبال الهرمل، مُعتمدةً على تقنيّة تحليل مضمون سجلّات المَحكمة الشرعيّة في طرابلس. ومن خلال عمليّة تفكيك موضوعات السجلّ 15 بين عامَيْ (1756 - 1759) لَفَتَت نَظَرَ الباحثةِ وفرةُ المعلومات المتعلّقة بالتَرِكات المسجَّلة عند الوفاة، ومنها المكتبات، ولاحظت أنَّ الثقافة السائدة في حينه يغلب عليها طابع الثقافة الدينيّة النَقْليّة، بحيث شكَّلت الكُتب الدينيّة المنقولة الكَمَّ الأكبر من موجودات المكتبات: (كُتب الفقه 24.28 %، الحديث 20.12 %، التفسير 16.61 %)، فيما تراجعت نسبة كُتب الفلسفة والحكمة والمنطق والخطابة والتاريخ والشعر والكلام والبلاغة والطبّ والأدوية وغيرها. وهذا يدلّ على سيادة الثقافة الدّينيّة (النَقْليّة) بقوّة على الثقافة العموميّة في حينه، فأَتَتْ باقي العلوم كملحقات (لزوم ما لا يلزم). وللتأكيد على فكرتها لجأتِ الباحثةُ إلى تصنيف هذه الكُتب الموروثة بحسب المراحل التاريخيّة لتأليفها فكانت الحقبة الأكثر غزارةً وإنتاجاً في القرن الرّابع عشر (73 مصنّفاً) والخامس عشر (88 مصنَّفاً) والسادس عشر (76 مصنَّفاً)، فيما تراجعت في القرن السابع عشر (مصنَّفان) والثامن عشر (3 مصنّفات)، وكأنَّ الإبداع قد شحَّ نَبْعُهُ تدريجيّاً، وانطفأت شُعلة التفكير الخلّاق. ولكن هل استمرّ هذا الانحدار المعرفي؟

طرابلس بين الأمس واليوم عاصمةٍ ثانية

لقد كان لطرابلس الأمس امتداداتٌ جغرافيّة شمالاً وجنوباً وشرقاً، وارتباطاتٌ اجتماعيّة وثقافيّة وسياسيّة مع محيطها الواسع، ناهيك بارتباط إداري مع ولايات السلطنة العثمانيّة التي كان يصل مداها الجغرافي إلى عاصمة الخلافة في إسطنبول، فالعمارات والمساجد والأحياء والطُّرق والأسواق والحمَّامات العثمانيّة لا تزال حتّى اليوم ماثلة في أعماق الذاكرة الجماعيّة لأهالي المدينة التي أهداها في العام 1891 السلطان عبد الحميد الثاني «شعرة الرسول» تقديراً لولاء أهلها لدولته، حيث تُعرض هذه «البَرَكة» حتّى يومنا هذا عقب صلاة العصر في آخر جمعة من كلّ رمضان في مسجد المدينة الكبير (المسجد المنصوري، نسبةً إلى بانيه المنصور سيف الدّين قلاوون)، ويجري هذا الحدث وفق تقليدٍ شعبيّ و»بروتوكولي» معيَّن بحضور مفتي المدينة ومشايخها وعلمائها الدينيّين وعامّة الناس.

لاحقاً، فَرضَت الحربان العالميَّتَان الأولى والثانية تغييرات كبيرة على النظام العالَمي، وكانت طرابلس جزءاً من معادلات الضمّ والفرز، فأُلحقت كغيرها من المُدن بكياناتٍ ناشئة فَرَضَها الواقع، وكانت ساحة صراع بين المعسكر التركي العثماني من جهة، والقوى الغربيّة المُستعمِرة من جهة أخرى، لكنَّ أهلها وقفوا سدّاً منيعاً ضدَّ المُمارسات والسياسات القمعيّة التي انتهجها قادةُ الجيش العثماني والفرنسي في أوائل القرن الماضي، وأَسهَمت مع غيرها من المُدن في نشأة الكيان اللّبناني بصيغته الحاليّة، وأصبحت بِحُكم مقوّماتها الحضاريّة العاصمة الثانية للبنان «الجديد»، ورمزاً من رموز النضال ضدَّ ظُلم المحتلّ الخارجي وقَهره.

إنَّ وجود محطّة قطار، ومطار، ومرفأ، ومصفاة للبترول، ومعرض دوليّ لا مثيل له في المنطقة جَعَلَها دُرَّة المُدن عقب الاستقلال، فنشطت فيها الفنون والعمارة، ما جَعَلَها محطَّةَ تلاقٍ لأهالي المناطق المُجاورة: عكّار وزغرتا والكورة والضنيّة. وكانت البنية الاجتماعيّة في المدينة على الدوام متماسكة، وكان مجتمعها مُسالِماً وتسود بين طوائفها المُختلفة ثقافةُ التسامُح. هذه الفورة الجاذبة سرعان ما تحوَّلت عنصراً طارداً عقب الحرب الأهليّة اللّبنانيّة، فتعمَّقت أزماتُ المدينة بعدما تسلَّلت إلى الوطن الوليد عصبيّاتٌ مذهبيّة أَنتجت «هويّات قاتلة» على حدّ تعبير الكاتب أمين معلوف، فهدَمت كلَّ منجزات «الاستقلال»، وترافَقَ معها تمادٍ في الإهمال والتهميش في مختلف المجالات، وانعدامٌ للأمن، وتراجُعٌ في «العمران»، وانتشرت في ضواحيها ووسطها التراثي «أحزمة بؤس» لا تليق بها وبتاريخها الحضاري، وأصبحت ساحةً للصراعات الداخليّة والخارجيّة، وأُلبست لباس الأصوليّة والرجعيّة والتطرُّف.

ومن المُفارقات التي ينبغي الإشارة إليها أنَّ الوعي الجماعي لأهل المدينة كان ولا يزال حتّى الآن يختزن في أعماقه مشاعر الحنين و»الأخوّة الدينيّة» مع محيطه خارج الحدود المرسومة حديثاً، بعدما فشلت الدولةُ النّاشئة في تعزيزِ قيَمِ المُواطنة وتجذير انتماء أهلها للجمهوريّة «الحديثة»، ويعود سبب ذلك إلى سياسات الإهمال المُتمادية وعدم تحقيق التنمية المُتوازنة المُستدامة من قِبَل السلطات السياسيّة اللّبنانيّة المُتعاقبة على مدى قرنٍ من الزمن. وهذا يُفسّر اليوم الارتباطَ الوجداني للمواطِن الطرابلسي مع محيطه خارج الحدود، فنراه على سبيل المثال يرفع رايات تركيّة في ساحات المدينة عندما تتعرّض الدولة التركيّة بعُمقها المذهبي «السنّي» لأيّ أزمة، وهذا أيضاً ينسحب على ما يُعانيه «أشقّاؤهم» من ويلاتٍ وحروبٍ في كلٍّ من سوريا وفلسطين.

طرابلس عاصمة للثقافة العربيّة: تَلقُّفٌ للفرصة أم هَدْرٌ لها؟

في عَصر العولمة الذي أَنتج قطاعاً عُرف بـ «اقتصاد المعرفة»، بدأ اهتمامُ الدول بقطاع الخدمات والسياحة والثقافة الإبداعيّة، حيث تُسارِع الحكوماتُ وتتنافس لاقتناص فُرص إقامة أيّ حدث عالمي أو إقليمي، نظراً لأهميّته في رفْدِ الاقتصاد الوطني واستقطاب الاستثمارات المُختلفة لتحقيق التنمية المستدامة ورفاهة مواطنيها وتحسين جودة حياتهم. والتحضيرات التي تسبق أيّ حَدَث، على المستويات كافّة، تستدعي استنفارَ وجهوزيّةَ أجهزة الدولة وإداراتها كلّها، وتحفيز المُجتمع الأهلي، لتحقيق الأهداف المتوخّاة؛ وهذا ما شهدناه في عددٍ من الدول العربيّة في الأمس القريب عندما اقتنصت فرصاً مهمّة جَعلتها نموذجاً يُحتذى به على المستوى العالمي، كاستضافة دولة الإمارات العربيّة المتّحدة لإكسبو دبي 2022 ولمؤتمر المناخ COP28 2023، ودولة قطر لمونديال كرة القَدم 2023 ولكأس آسيا 2024؛ فهل ستتمكّن الدولةُ اللّبنانيّة من تحقيق أهداف العرس الثقافي المُتمثّل في تظهير الحالة الثقافيّة لمدينة طرابلس بعد إهمالها وتهميشها لعقود؟ وهل سيكون هذا الحَدَث فرصةً ثمينة لإظهارها «بصورة ناشطة وحلّة راقية، وتنمية مخزونها الثقافي، بما يؤكّد مكانتها المُتجدّدة في تاريخ الثقافة العربيّة، وما قدّمته من إبداعاتٍ ومُبادراتٍ وإسهاماتٍ في مَيادين التراث والأدب والعلوم والفنون... وتظهير المُشتركات الثقافيّة العربيّة الجامِعة والانفتاح على الثقافات العالميّة» (فيصل طالب، «عواصم الثقافة العربيّة: أيّة فعاليّات، ولأيّة غايات، وبأيّة إمكانات؟»، الجريدة، 22/ 1/ 2024) التي من شأنها أن تُشكّل خطوة تقدّميّة لمَسار الحياة الثقافيّة؟

في العام 2015 أقرَّت المنظّمة العربيّة للتربية والثقافة والعلوم ALESCO عبر اللّجنة الدائمة للثقافة العربيّة، الاقتراحَ المقدَّم من المدير العامّ السابق للشؤون الثقافيّة في لبنان آنذاك فيصل طالب باعتماد مدينة طرابلس عاصمةً للثقافة العربيّة للعام 2023 وذلك استناداً إلى انطباق المعايير الموضوعة لاختيار عواصم الثقافة على مدينة طرابلس، وقد تأجَّلت للعام 2024 بناءً لطلب السلطات اللّبنانيّة بسبب الظروف الأمنيّة (انفجار مرفأ بيروت)، والصحيّة (جائحة كورونا)، والاقتصاديّة (الانهيار الاقتصادي).

وبتحليلنا لأماكن استضافة هذا الحدث الثقافي سنويّاً، بدءاً من العام 1996، يتبيَّن لنا أنَّ التكرار في البلد العربي نفسه لم يحصل أكثر من مرَّتَيْن حتّى الآن، وكان لبنان بينها (بيروت 1999، وطرابلس 2024)، وهذا يعني أهميّة لبنان الحضاريّة وإرثه الثقافي والتاريخي وفاعليّته على المستوى الثقافي العربي، وهي فرصة لن تتكرَّر في المستقبل القريب، لذلك يتوجَّب استثمارها وتحقيق أهدافها من خلال إنتاج أنماط مُستدامة للعمل الثقافي من قِبل الفاعلين في الفضاء الثقافي، وابتكار إضافات مهمّة إلى الرؤى الثقافيّة والبنى التحتيّة المُستحدَثة، كإنشاء متحفِ طرابلس التراثي، ومتاحف ومسارح دائمة للفنون، ودعْم إنتاجات المهارات الحِرفيّة اليدويّة، و»تحفيز الإنتاج الأدبي والفكري، وتشجيع البحث العلمي، ودعْم الإصدارات والمنشورات في المجالات المعرفيّة كافّة، ووضع قوائم بعناصر التراث الثقافي غير المادّي... وإجراء المُباريات الهادفة إلى نشْر الثقافة العربيّة، ومنْح الجوائز المناسبة في هذا النطاق، والاهتمام بثقافة الأطفال، وتكريم شخصيّات كان لها تأثيرٌ على مَسار الحياة الثقافيّة» (فيصل طالب، المرجع نفسه).

لا شكّ بأنَّ المدينة تُعاني من مشكلاتٍ مُزمِنَة في البنى التحتيّة الثقافيّة (عدم وجود فنادق ومتاحف ومسارح تليق بهذا الحدث) ومعرضها الدولي الوحيد مترهّل ومُهمَل، ناهيك بالإهمال المُتمادي من قِبَل الحكومات المُتعاقبة الذي جَعَلَ عُمقها التراثي ومُحيطه بؤرة قفر، مع تخبُّط مُستمرّ في مجالسها المحليّة غير المنسجمة، وواقع سياسي مأزوم، يُضاف إليه حرب غزَّة والتوتُّر جنوب البلاد وتأثيرهما على الداخل اللّبناني في ظلّ انهيارٍ اقتصادي. هكذا تأتي هذه المُناسبة لتشكّل تحدّياً للقيّمين على مؤسَّسات وإدارات الدولة اللّبنانيّة (من أمن وإدارة وتنظيم) ومدى جاهزيّة المؤسّسات الأهليّة والثقافيّة والتربويّة (مدارس، جامعات، معاهد، ...) الغائبة حتّى الآن عن هذا الحَدث (المعلوم منذ 2015!)، إضافة إلى ضعف الترويج الإعلامي والإعلاني لهذه المناسبة، وتأخُّر في تشكيل اللّجان «الفضفاضة» (المُعيَّنة لهذه المناسبة في نهاية 2023) للتخطيط والتنظيم، وتساؤلات حول معايير اختيار أعضائها ومدى انسجامهم وطريقة عملهم... لكنَّ الأهمّ من ذلك كلّه هو التحضير النفسي والمهاري للعنصر البشري، وتحديداً فئة الشباب، وتحفيزها تحقيقاً لإثبات ذاتها، وإشراكها في البناء والإنتاج بدلاً من استنزافها ودفْعِها للهجرة الكثيفة إلى الخارج لـتأمين المستقبل والعيش بكرامة.

وأخيراً نتساءَل عن كيفيّة إعادة إنتاج «عقل جديد» في نظرتنا إلى مستقبل لبنان بعامّة ومدينة طرابلس بخاصّة في ظلّ الانحدار على المستويات كافّة!

من هنا ضرورة الوعي بأهميّة هذا الحدث الثقافي الذي يجب أن يأتي كنتيجةٍ لمفهوم العمران «الخلدوني» وكتتويجٍ له وليس العكس. فالعمران بمفهومه الحديث لا يتحقَّق في عالَم العصبيّات، بل يحتاج إلى غَرْسِ قيَمِ المُواطنة التي تقوم على المُساواة والحريّة والمُشاركة وتحمُّل المسؤوليّة المجتمعيّة، ما يعزِّز مفاهيم الانتماء والحقوق والواجبات وخلْق مواطن مدني يحافظ على تراثه وإرثه الثقافي ويُدافع عنه تلقائيّاً... مع ضرورة تحقيق العدالة «فالظلم مؤذن بخراب العمران» كما يقول ابن خلدون. وعندما تتحقّق تلك «الأماني» تكون طرابلس عاصمةً للثقافة العربيّة على الدوام ويعود لبنان لؤلؤة الشرق.

*باحث في علم الاجتماع

* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.