تتكوّن العمارةُ التي كنتُ أعمل بها من سبعةِ أدوار، وظننتُ في البدايةِ أنَّ احتلالَ كلِّ إدارةٍ لموقعها يأتي من عشوائيةٍ زمنية، لكن بما أنَّ إدارتي حضرت مبكرًا ووضِعت في الدور السابع لا يُجاورها إلا المكتبة، تساءلتُ: ما مرجعية تحديد أماكن الإدارات؟ ثم زدتُ على طينِ السؤال بِلةً بعد ما نُقلِت (الكافيتريا) من جوارنا إلى الدور الأرضي، فصار السؤال: ما علاقة الدور بأهميةِ منتج الإدارة؟

كنت أستمتع بتساؤلاتي وأنا في المصعد أنتقل من تحت الأرض حيث موقف السيارة إلى سماءِ العمارة حيث إدارتي (الغلبانة)، وهذا ما جعلني أسائل الدورَ نفسَه عن معناه، أي لِمَ سُمي الدور دورًا لو لم يكن لعلاقةٍ بوظيفةٍ ما؟ ومن جماليات دورنا أن جُعلت المكتبة جارة لنا، أشرب فيها قهوتي قبل أن أبدأ العمل، والمكتبة يُفترض أنَّها من طرائق الاستمداد المعرفي للعمارة وإداراتها، ومع ذلك ظلت في الدور الأخير، وهذا حرضني على طرح سؤال عن نوعية الكتب وعلاقتها بالقانون (أساس العمل في العمارة)، ولما وجدتُ المكتبةَ ملئت بكتبِ الأدبِ واللغة والتاريخ، والشريعة والقانون، والإدارة والإعلام، والجغرافيا والرحلات، وبعضٍ من فلسفة العرب الأوائل، حدستُ سرًا من أسرار وجودها في الدور السابع، فهي لا تخدم موضوع العمارة إلا كما تخدم فلسفةُ ابن رشد وزارةَ الثقافة بعد تحولاتها الجذرية التِقنيّة. بل إنَّ تنوع المكتبة أوحى لي سببَ وجود إدارتي في السابع وهو أنَّ علاقة إدارتي بالعمارة وأفقها كعلاقة الميتافيزيقا بواقع الناس العملي.

وأذكر أني تعرفتُ في الكافيتريا على زميلٍ عزيز هو سالم مجرشي موظف في تقنية المعلومات، الإدارة التي تحتل الدور الأول، وكان يسخر مني حين ألاقيه وأنا صاعد إلى سماءِ العمارة يقول: «أهلًا بالجاحظ»، ومرة يقول «أهلًا بسيبويه»، ومعه حق فرؤية الجاحظ في شركة محاماة عصرية مشهد كوميدي؛ لكنِّي أدخلتُ سخريتَه ضمن سؤالي عن الأدوار، فدورنا ودورهم كالطّاقة للجسد فلماذا وُضِعنَا في السابع ووضعوا في الأول؟ لم أجد جوابا حينها إلا لأنَّ التقنيةَ ميتافيزيقا حديثة، أما عملنا فميتافيزيقا عتيقة لم يُستغنَ عنها تمامًا؛ فهي ضرورية في وجود العمارة نفسها. وهذا الجواب شوّقني إلى تتبع كل إدارةٍ على حدة، وتأمل دورها الوظيفي مع دورها المكاني، ووجدتُ أنَّ مكتبَ رئيس العمارة في الدور الأول، وهو في الآنِ نفسه رئيس تقنية المعلومات، بتخصصٍ مزدوج بين القانون والتقنية؛ وهذا الأمر قد يَعني أنَّ التقنيةَ أفق ووعاء للقانون، ويُحاول سُكَّان الدور الأول أن يُسيطِروا على مجريات حياتنا في العمارة، وهذا فعلًا ما أحسسناه، فنحن في إدارتنا مراقبون من تقنيةِ المعلومات، ونعيش على تعليماتهم، ونلجأ لهم حين تتعطّل حياتنا العملية، ثم نشكرهم على مساعدتنا ومراقبتنا التي تضمن أننا غير مخترقين. وأذكر أنَّ سالمًا تَطورت سخريتُه إلى قول: «لا أدري لماذا أنتم موجودون في العمارة، وأرى أنَّ إلغاءَ إدارتكم ضروري ليخفّ الحمل الكهربائي، وجهدُ عمّالِ الصيانة ومتابعي الأجهزة ومراقبي الدوام، لكن قبل هذا لا بد أن نَضمن لكم وظيفة أخرى، فقطع الأعناق ولا قطع الأرزاق» والحقيقة أنَّ سخريةَ سالم مهمة، لأنها تَكشِف أنَّ تقنية المعلومات لا تعرف علاقةَ عملنا بالواقع، لكنَّها في الآنِ نفسِه تُراقب هذه العلاقة مراقبة دقيقة، وهذا يَصنع المفارقة التي تتمثّل بأنَّ المعقوليّة التقنية غير قادرة على استيعابِ كينونةِ الإنسان لكنَّها تُراقبه وتُسيطر عليه. انتقل تفكيري بعد هذه النتيجة إلى الدورِ الثاني الذي تتموضع فيه الموارد البشرية بأقسامها وذيولها، ودخلتُ على موقع العمارة الإلكتروني لتتبّع الهيكليّة الإداريّة، والمهام الدقيقة؛ فوجدتُ ما يُوضّح موضع الموارد البشرية من منظومةِ العلاقات الإدارية كلها التي تحتلّ الدورين الثالث والرابع، وأنها (الماكينة) التي يُعوّل عليها في تحويل الموظف إلى أداةٍ لغايات العمارة وأهدافها. قلتُ ربما هذا ما يجعلها في دور بين التقنية كإطار عقلاني للحياة، والعلاقات الإدارية كمصدر وقاعدة تشريعية. والغريب أنَّ إدارتنا لم تُحقِق الغايات المرسومة في الموقع الإلكتروني، وهذا ما جعلني أفكّر بأنَّ الموارد البشرية تُحاول أن تُعقلِن رأسَ المال البشري؛ أي تُهمّش من إبداعاته الفردية الخاصّة لصالح الحياة المُعقلنَة ضمن الأهداف والغايات في العمارة. وعقلنة الحياة أعني بها أن يكون نجاح الإنسان معقودًا بشكلِ النمو الاقتصادي التقني. إذن لقد ضمنت العلاقاتُ الإدارية للموارد البشرية سبيلًا واحدًا إلى اليقين، فهي لا تَسمح بدخول أي وسائل تُشكِّك بنوعيةِ العمل المثمر. وربما هذا ما يُفسِّر حالَ زميلٍ لي، درس دبلوم موارد بشرية؛ أملًا بالخروج من هوامشِ العمارة إلى بحبوحتها، إلا أنَّ الموارد البشرية في العمارة لم تقبل تحويل وظيفته. يقول لي هذا الزميل إنَّ موظف الموارد شعلةُ ذكاء، يُحاجج كأنَّه من إدارتنا، ويعمل كأنَّه خارجها. ويُمكِن أن أتصور قصدَ زميلي بحوارٍ افتراضي يقول فيه أحدهم: «ماذا لو استيقظنا واكتشفنا أنَّ الحياة حلم؟» فيرد عليه الآخر: «لن تعرف العملة المزيفة إلا إذا عرفتَ العملة الحقيقية». أي لن نعرف معنى الحلم إلا باليقظة، ولا يدلنا على اليقظة إلا هذه الحياة المعقلنة. المفارقة أنَّ هذه الحجة التي تخدم موظفي الموارد البشرية وتقنية المعلومات هي جزء من عملنا في الإدارة. ويُمكن أن يُوضِّح هذه المفارقة وجود الإدارة القانونية في الدورين الخامس والسادس مع أنَّ عملَ العمارة الأساس خدمات قانونية، ولكن لأنَّ هذه الإدارة تأتمر بأمر العقل التقني وضِعت في الأعلى، وأعني بالائتمار أنَّ تَوجّه الحياةِ خارج العمارة محكوم بالفعالية التقنية والعلمية، وما دور القانونيين في العمارة إلا الدفاع عن الممارسات التي تُنجز داخل هذه الحياة المعقلنة، ولو أراد أحد المحامين التفذلك خارج المسار، لتهكّم عليه سالم ثم حوّلوا وظيفته إلينا.