تتسم حياتنا المعاصرة بالسرعة وكثرة إدراك الأحداث المتزامنة والمتعاقبة سواء كان ذلك الإدراك بوعي أو بغير وعي، ويتطلب منا في كثير من الأحيان صياغة قرارات شخصية تمس حياتنا وحياة من حولنا.

في كثير من الأحيان، تنبني تلك القرارات على معلومات ناقصة، أو تحت تأثير ما لا ندركه في حينها.

لقد تفاقمت هذه السمة المعاصرة مع وجود وسائط التواصل الاجتماعي، والتي جعلت من أتفه البسطاء في المجتمع شخصيات مؤثرة. الحقيقة التي لا يدركها الكثيرون هي أن معظم أفراد المجتمع من البسطاء ذوي التفكير السطحي، والذين تبهرهم الأضواء ويشدهم الصراخ والعويل. إذا انجذب أكثر الناس في اتجاه، تبعهم الباقون كسيل متدافع يصعب على أصحاب المبادئ الثابتة الثبات إلا بجهد مضنٍ ودؤوب.


هذا التأثير في علم الاجتماع يسمى بالإيحاء الإجتماعي ، حيث يتم زراعة الفكرة بالتركيز على بساطتها وتكرارها، ثم تنمو في عقول الأفراد بالتزامن مع نمو أعداد معتنقيها. تبدأ الفكرة غريبة ثم تنتهي بغرابة من لا يتبناها، في تحول أشبه ما يكون بالانقلاب الكلي على المفاهيم السائدة. هنا تكمن خطورة الأفكار ووجوب محاربة الرديء منها في مهده وعدم السكوت عنه.

الإيحاء الإجتماعي ظاهرة طبيعية، لا تعني بالضرورة أن الهدف منه مدروس ومخطط له. لكن إذا أصبح أمراً مقصوداً، تحول إلى هندسة اجتماعية لها مخرجات مقصودة ونوايا مبيتة، سواء كانت خيّرة أو شريرة. مربط الفرس هنا هو النية، هل الإيحاء المؤثر له أهداف متوالية، أم المقصود منه ظاهره فقط؟

يبرز الإيحاء الاجتماعي الطبيعي المنافع والمضار لسلوك أو اعتقاد معين، ويكون الهدف منه تغيير أو إثبات ذلك السلوك أو المعتقد، ولا شيء بعد ذلك. كمثال، شخص يقدم نصائح لممارسات صحية بهدف أن يقتنع المتلقون بها ويتبنونها ويغيرون سلوكياتهم بناء عليها.

في المقابل، تهدف الهندسة الاجتماعية إلى تغييرات جذرية وأصولية في المجتمعات التي تستهدفها. تبدأ بالإيحاء كأحد الأساليب الأولية، ولا تهدف فقط لما توحي به ظاهرياً، ولكن تهدف مرحلياً لاكتساب المصداقية والقبول في المجتمعات المستهدفة، ومن ثم تتوالى إجراءات تلك الهندسة الديناميكية حتى تصل إلى أهدافها النهائية.

ديننا الحنيف يرشدنا باستمرار إلى إعمال العقل في كل أمر، واستشارة أهل الرأي والعلم في الشأن، والاستخارة آخراً وطلب الهداية من العليم الخبير. يدعونا دائماً ألا يكون الفرد منا إمعةً يسير كما سار الناس، فالكثرة لا تعني الحقيقة، بل غالباً ما تكون الضلالة بعينها والعمى عن الحقيقة برمتها.

قال الله تعالى في كتابه الكريم: “وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ” (الأنعام: 116).

وقال النبي محمد صلى الله عليه وسلم: “لا تكونوا إمعة، تقولون إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا” (رواه الترمذي).

قد لا يوافق الكثيرون على ما نُسب للإمام الشافعي من قوله:

لا يَكُن ظَنُّكَ إِلّا سَيِّئاً

إِنَّ سوءَ الظَنِّ مِن أَقوى الفِطَن

ما رَمى الإِنسانَ في مَخمَصَةٍ

غَيرُ حُسنِ الظَنِّ وَالقَولِ الحَسَن

إلا أنني أجد فيه ضالتي هنا، فمن لا تعرفهم عن كثب (كمؤثري وسائط التواصل الاجتماعي) فالأحرى ألا تعرف دينهم وأخلاقهم. سوء الظن هنا فطنة لا غنى لك عنها حتى لا تقع لقمة سائغة لأفكار مؤذية لن تدرك أثرها إلا بعد أن يسبق السيف العذل.

أما من تعرف دينهم وأخلاقهم من أخوانك وأخواتك المسلمين، فالدين يحتم علينا إحسان الظن وتوسم الخير وإيجاد العذر وإن وجدنا في ذلك مشقة.

وأخيرا ، إن إدراك الفروقات بين الإيحاء الاجتماعي والهندسة الاجتماعية يمكن أن يساعدنا في مواجهة التحديات اليومية التي نواجهها، خاصة في عصر وسائل التواصل الاجتماعي.

لذا يجب أن نكون حذرين وواعين للتأثيرات المحيطة بنا، ونستعين بالعقل والإيمان كمرشدين لنا. ومن الضروري أن نتحلى بالوعي النقدي ونطلب الحكمة من الله عز وجل، كما قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ” (الأنفال: 29).