رأيت من بعض الموهومين والمتوهمين استغلالا عجيبا لأجواء الانفتاح الفكري، وآخر صيحاتهم التي يحاولون نبشها تجويزهم تكرار الحج خلال أشهر الحج أو الأشهر الحرم، من أجل تحقيق مآرب يظنها غير المتخصص منطقية، كتفادي الزحام، وزيادة المداخيل وإتاحة الفرصة لغير القادرين.

الموهومون إياهم يخبطون «خبط عشواء»، ينكرون الأحاديث، ويضربون أقوال الفقهاء عرض الحائط، ويخلطون بين الآيات، كقوله تعالى في سورة البقرة {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}، وقوله سبحانه بعد 6 آيات {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَىٰ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}، وقوله جل جلاله في سورة الحج {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِير}.

بكل لي للنصوص يطرحون اسم الإمامين ابن كثير والبيضاوي، لتقوية زعمهم، مع أن الأول قال: «قوله: [فمن فرض فيهن الحج] أي: أوجب بإحرامه حجًا؛ فيه دلالة على لزوم الإحرام بالحج والمضي فيه»، وأقل طالب علم يفهم أن «المضي فيه» يعني أن من أحرم بالحج فقد وجب عليه، وعليه إتمامه، وهذا شأن كل عبادة يبدأها الإنسان عليه أن يتمها، والثاني قال: «[الحج أشهر] أي وقته، كقولك البرد شهران، [معلومات] معروفات، وهي: شوال وذو القعدة وتسعة من ذي الحجة بليلة النحر عندنا، والعشر عند أبي حنيفة، رحمه الله، وذي الحجة كله عند مالك، وبناء على الخلاف على أن المراد بوقته وقت إحرامه أو وقت أعماله ومناسكه أو ما لا يحسن فيه غيره من المناسك مطلقًا...»، وأقل طالب علم أيضًا يفهم من كلامه عدم الخلاف في أنه لا يصح أن يحرم أحد بالحج قبل أشهره.

أهل العلم، وبلسان واحد، لا خلاف عندهم في أن الإحرام بالحج لا يصح بعد فجر يوم العاشر من ذي الحجة، كما لا خلاف عندهم في أن أعمال الحج لا تنتهي إلا بعد يوم العاشر، وأن بقية الحج محل لأعماله، التي لا يفوت وقتها كالطواف والسعي ونحو ذلك، وعن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: «لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج، إلا في شهور الحج، من أجل قوله تعالى: [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ]، وعن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبدالله، يسأل: أيهل بالحج قبل أشهر الحج؟ فقال: لا، والضمير [فيهن] في قوله تعالى [فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ]، يعود إلى أشهر الحج، والمراد بعضها، أي: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة؛ لأن ما بعد طلوع فجر يوم النحر ليس محلًا للإحرام، لانتهاء وقت الوقوف بعرفة.

أختم بأسفي بل وألمي من الانتقادات التي تطال شعيرة الحج، ومن ذلك التشغيب والتشكيك في وقته، والتلاعب واللعب على التوتر الظاهريّ بين أشهر وأيام معلومات، وأيامٍ معدودات، وتعمد خرق الإجماع، والغفلة عن أن الأشهر المعلومات هي وقت النيّة، والأيام المعلومات هي أوقات الفعل، وأرجو من صميم قلبي أن نبذل جهودنا في تقديم قراءات معاصرة مع فكر جديد للتدين، ولكن من دون تقسيمات للقرآن والحديث أو تجاهل للسياقات مع الالتزام التام بالتخلص من الأغراض النفعية الخاصة.