في علم النفس وعلم التخاطب والنطق، هناك بحور من الاضطرابات التي لا يدركها الإنسان، ولا يعرف لها سببًا واضحًا، ولكنها تحتاج إلى نسبة عالية من الوعي المجتمعي لتدارك المشكلة والمبادرة إلى حلها.
ولعل «المصاداة» أو «الإكولاليا» أحد هذه الاضطرابات الغريبة التي تستلزم التعامل معها بشكل مسؤول لتلافي الضرر النفسي، وحتى الإيذاء المجتمعي كالتعرض للتنمر أو السخرية من المصاب.
تكرار بلا إدراك
«انتبهي جيدًا إذا سألتِ ابنك سؤالًا، وبدلًا من أن يُجيبك عنه، ردد كلمات السؤال، كأنه صدى صوت لك، دون إدراك منه، لأن هذا قد يشير إلى أنه مصاب بداء «المصاداة»، وتزداد شكوك الإصابة بهذا الداء، إذا كان عمر طفلك فوق 3 سنوات، بيد أن الإصابة بـ«المصاداة» لا تنحصر في الأطفال ممن هم بهذا السن، بل قد نجد بالغين مصابين بهذا الاضطراب، وبحسب اختصاصين تواصلت معهم «الوطن» فإن هذا السلوك قد يكون علامة على الإصابة بأمراض نفسية، عصبية أو حتى عقلية مختلفة بحسب كل حالة.
مؤشر خطر
أبسط تعريف لـ«المصاداة» هو ما ذكره الاختصاصي في علم النفس أسعد النمر بأنه «تكرار غير إرادي أو تلقائي أو قهري، أو تكرار بلا معنى غالبًا، لأقوال الآخرين أو عباراتهم بعد سماعها فورًا، أو بعد فترة، وغالبًا ما تكون المصاداة عرضًا من أعراض اضطراب عقلي أو طبي، علمًا بأن المصاداة هي ظاهرة طبيعية نمائية، يمر بها الأطفال قبل 3 سنوات عادةً كطريقة لإنماء قدرتهم اللغوية، لكنها لو استمرت أو ظهرت بعد سن الثالثة، فغالبًا ما تكون مؤشرًا يستدعي الانتباه والمعالجة إن لزم الأمر».
خلاف اللجلجة
بيّن النمر الاختلافات بين«المصاداة» و«اللجلجة»، وقال إنه في الأخيرة لا يكرر الفرد كلمات الآخرين، بل يكرر كلماته بطريقة فورية وتلقائية، بينما «المصاداة» يكرر فيها المصاب أقوال الآخرين.
وبتعريفهما علمياً فإن «الإكولاليا» كما تُنطق بالانجليزي مشتقة من الجذور اليونانية «echo» و«lalia»، حيث تعني كلمة «echo» «التكرار»، و«lalia» تعني«الكلام»؛ أي تكرار الكلام أو صدى الكلام، ويمكن ترجمتها إلى العربية بالمصاداة؛ في حين أن الباليلايا Palilalia تعني «اللجلجة» وهي تكرار الشخص لكلماته.
خلل واضطراب
لا تزال أسباب المصاداة غير معروفة بدقة، بحسب النمر الذي يقول «إذا استثنينا تكرار الكلام التلقائي لدى الأطفال قبل 3 سنوات، فإن تكرار الكلام سيكون مرضيًا، لكن الأسباب وراء ذلك ما زالت غير معروفة بدقة، هناك احتمالات لأسباب تتعلق بخلل تنظيم الدوبامين Dopamine أو خلل بالعصبونات المرآتية Mirror neurons في الدماغ، ويمكن أن تكون المصاداة أيضًا علامة على اضطراب التوحد أو إعاقة نمائية لدى الأطفال أو المشاكل العصبية لدى البالغين، كالسكتة الدماغية أو متلازمة توريت Tourette syndrome (حالة تصيب الجهاز العصبي، وتسبب لزمات أو تشنجات متكررة لا إرادية تظهر في الحركات أو الأصوات بطريقة مفاجئة)، أو الفُصام Schizophrenia (اضطراب عقلي) أو الخرف Dementia، أو تأخر اللغة Language delay أو الحُبسة Aphasia (وهي فقدان كلي أو جزئي على القدرة على التعبير أو فهم اللغة).
بين التوحد والحبسة
أكمل النمر «تبدو الأسباب متنوعة بتنوع الاضطرابات التي تكون المصاداة عرضًا فيها، فمثلًا قد يبدو تكرار الكلام التلقائي بعد سماعه علامة بارزة لدى أطفال طيف التوحد، كما يحتمل أن يرتبط التكرار اللفظي أيضًا في الأفيزيا أو فقدان القدرة على الكلام أو اضطرابه، وقد تصل نسبة حدوث المصاداة في حالات الحُبسة إلى 20% من مجموع هذه الحالات التي ربما تعود لتلف بقشرة الدماغ يسهم بشكل مباشر في التكرارات اللفظية، وبالرغم من أن الأفراد الذين يعانون من أنواع مختلفة من الحبسة قد فقدوا بعض القدرة اللغوية، فإن الرغبة والنية في التواصل تظل قائمة، مما يؤدي غالبًا إلى أخطاء في الكلام، مثل التكرار اللفظي، والمعروف باسم المصاداة، وقد تكون بعض أسباب المصاداة مرتبطة ببعضها».
وظيفة المصاداة
أوضح النمر أن «المصاداة طريقة تعبير لفظية وإن كانت غير سويّة وغير واضحة الأهداف والأسباب بدقة، ويمكن افتراض أن لهذه الطريقة من التعبير اللفظي وظيفة أو وظائف معينة لكنها غير معلومة بشكل جيد».
ولفت إلى أنه بشكل عام يمكن ربط وظيفة المصاداة بعدة أمور ينبغي أن تُؤخذ بالاعتبار لفهم دلالة التكرار التلقائي للكلمات أو العبارات ومنها:
1. الشخص الذي يجري الحديث (أب – أم – طبيب – معلم – اخصائي نطق... ) مع المصاب بالمصاداة.
2. سياق البيئة المحيطة (في البيت – عيادة – مدرسة – بقالة...).
3. تغير نغمات الكلام (صوت منخفض – مرتفع).
4. التواصل الاجتماعي، سيّما لدى التوحديين، فقد يكون التكرار اللفظي مؤشر في كثير من الأحيان للاهتمام الاجتماعي.
تصنيف المصاداة
صنف النمر المصاداة إلى نوعين «هنالك مصاداة فورية وتشير إلى الأقوال التي يكررها الشخص على الفور أو بعد تأخير قصير، فإذا كان الطفل يعاني من اضطراب المصاداة، فقد يكرر ما يُقال له مباشرة. فمثلاً، إذا سألته: «هل تريد بعض العصير؟»، فقد يكرر: «هل تريد بعض العصير؟». ربما يكون التكرار هنا وظيفيًا؛ أي أن الطفل يحاول إيصال أنه شيئاً ما ليس بالضرورة العصير».
وأكمل «النوع الثاني هو المصاداة المتأخرة وتعني الألفاظ التي يكررها الطفل بعد تأخير كبير. على سبيل المثال، قد يجر الطفل شعر رأسه ثم يقول «عندي مشكلة». الطفل في الواقع يكرر ذات العبارة التي سمعها قبل أيام في فيلم رسوم متحركة حينما رأى شخصاً يشد شعر رأسه ويقول «عندي مشكلة». وبعد فترة يكررها الطفل كما هي «عندي مشكلة» وهو تكرار متأخر حرفي. أو يقول «مشكلة» وهو تكرار معدّل بشكل طفيف. لذا فإن الطفل ربما يربط هذه العبارة بالتعرض للأذى والحاجة إلى المساعدة، حتى لو كانت الكلمات الدقيقة قد لا تكون منطقية في الموقف المحدد أو في سياق الموقف».
وأوضح أن «انتشار هذا الاضطراب غير واضح بدقة، لأنه عرض غير متجانس، يظهر في حالات مرضية مختلفة».
واستدرك «لكن يمكن القول إن المصاداة تؤثر على نحو 1 و2% من السكان في أمريكا الشمالية وأوروبا وآسيا، وبحسب الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية الصادر عن الجمعية الأمريكية للطب النفسي، هناك ما يقرب من 75% من الأطفال الذين يعانون من اضطراب طيف التوحد يكررون تلقائياً كلام الآخرين بعد سماعه».
أساليب العلاج
تطرق النمر إلى أساليب العلاج، التي حددها بـ3 طرق علاجية هناك علاج النطق، الذي يتم عبر جلسات علاجية منتظمة للنطق، لتدريب الشخص على كيفية قول ما يفكر فيه، وغالبًا ما يكون التدخل السلوكي المسمى «نقطة الإيقاف المؤقت» مفيدًا في الحدّ من المصاداة أو علاجها.
وتابع «هذا النوع من العلاج، قد يتطلب معالجة النطق لدى الشخص المبتلى بالمصاداة، بأن يجيب على سؤال بشكل صحيح ويخبره بأنه سيشير إليه عندما يحين وقت الإجابة، ثم يطرح المعالج سؤالاً، مثل «ما اسمك؟» وبعد توقف قصير، يُطلب من الشخص الإجابة. وعلى كل إجابة صحيحة، يتم تعزيز الشخص بطريقة ما».
وأضاف «النوع الثاني من المعالجة هو المعالجة الطبية، حيث يمكن أن تنفع بعض الأدوية، مثل مضادات الاكتئاب أو أدوية القلق لمكافحة الآثار الجانبية للمصاداة، وهذا لا يعالج المشكلة بحد ذاتها، ولكنه يساعد في الحفاظ على هدوء الشخص المصاب، نظرًا لأن أعراض المصاداة قد تزيد عندما يكون الشخص متوترًا أو قلقًا، فإن التأثير المهدئ يمكن أن يساعد في تقليل شدة الحالة».
وأكمل «أما النوع الثالث من العلاج، فهو الرعاية المنزلية، حيث على أفراد الأسرة دور مهم في مساعدة طفلهم أو طفلتهم على الحد من المصاداة، فهؤلاء يمكنهم المساعدة على تطوير مهارات التواصل بينهم وبين الطفل المصاب. فمثلًا، يستطيع الوالدان مساعدة طفلهم على تدريبه، ليقول إجابات مطلوبة بأن يشجعاه على استخدام مفردات محدودة، قد يسهل عليه تعلم التواصل بشكل أكثر فعالية، ويمكن للوالدين أن يعرضا طفلهما أو طفلتهما مجموعة واسعة من الكلمات والعبارات. وبمرور الوقت، يستطيع معظم الأطفال التغلب على المصاداة بشكل طبيعي».
الاضطراب النفسي
من جهتها، أيدت الاختصاصية النفسية فايزة العلق ما جاء به زميلها النمر، وربطت بين المصاداة ومرض التوحد، وقالت «المصاداة نوع من الاضطراب النفسي الذي يصنف باعتباره واحداً من سمات التوحد».
وأشارت إلى أن «تكرار الكلمات أو العبارات مرارًا وتكرارًا يدخل ضمن السلوكيات النمطية».
وعن كيفية اكتشاف هذا الاضطراب وتداركه، قالت «نكتشفه عندما نلاحظ أن الطفل يكرر السؤال الموجه له بدلا من الإجابة عليه، مثلا عندما يوجه له سؤال «ما اسمك؟»، يكون جوابه «ما اسمك».
وتابعت أن «علاجها يكون عن طريق جلسات العلاج السلوكي في العيادات النفسيه أو مراكز التأهيل، مؤكدة أنها من سمات التوحد، وممكن علاجها من خلال اختصاصيي النطق والتخاطب أيضًا».
المصاداة
ـ اضطراب في عملية التواصل يظهر بسبب حصول تكرار الكلام مباشرة بعد سماعه مباشرة أو بعد وقت قصير أو طويل
ـ بعد سن السنتين تصبح عرضًا لوجود مرض نفسي أو عصبي أو إعاقة ذهنية
ـ ربما تكون لدى أطفال التوحد بنسبة كبيرة
ـ قد تكون عرضا لدى طفال اضطراب التواصل الاجتماعي وفرط الحركة ونقص الانتباه
من طرق علاجها
1ـ علاج النطق
عبر جلسات علاجية منتظمة للنطق
تدريب الشخص على قول ما يفكر فيه
التدخل السلوكي المسمى «نقطة الإيقاف المؤقت»
2ـ المعالجة الطبية
باستخدام بعض الأدوية، مثل مضادات الاكتئاب أو أدوية القلق
هذا المعالجة فقط لتهدئة المصاب
3ـ الرعاية المنزلية
يمكن للأسرة أن تساعد المصاب وتطوير مهارات الاتصال لديه