المدينة الفاضلة أصبحت مضرب مثل يطلقه كثير من المثقفين على الوضع المثالي لنظام حكم متخيل، نسبة للمدينة التي تخيلها أفلاطون، ولكن هل مدينة أفلاطون الفاضلة هي حقا فاضلة؟ لو أن أحد هؤلاء المثقفين لم يسمع يومًا عن أفلاطون ولا عن مدينته وقيل له إن هناك مدينة لا يحكمها القانون بل الحكم فيها سلطوي وشمولي، وقد أسست على كذبة، الهدف منها هو تظليل أبناء المدينة بحيث يتقبلون التقسيم الطبقي في مجتمعهم، والدولة في هذه المدينة تحدد معتقدات مواطنيها بل وهواياتهم والنظام في هذه المدينة يلغي الملكية تقريبًا، ويجعل الأملاك مشاعًا بين الناس حتى إنه ليس هناك أسرة، ولا مؤسسة زواج، ولكن يتم التكاثر بطرق أشبه بالتدجين، ولكنه تدجين انتقائي يسمح فقط للأصحاء والمتعلمين بالتكاثر، وفي فترة عمرية محددة، وعندما تضع الأم طفلها يأخذ منها مباشرة، ويقوم نظام هذه المدينة بتربية الأطفال الذين لا يعلمون من هم آباؤهم أو إخوانهم بل إن هذا التشويه الاجتماعي هو هدف من أهداف نظام هذه المدينة، ويتم تدريب الأطفال على مراحل، ويخضعون لامتحانات ونتائج الامتحانات تحدد إلى أي طبقة ينتمون.

هل إلى طبقة العمال أم طبقة الجنود أم الفلاسفة.

في هذه المدينة يتم نفي الشعراء والتخلص من «ذوي الاحتياجات الخاصة»، ويتم استخدام العبيد على نحو وحشي.


فلو قيل لهذا «المثقف» ما هو أفضل اسم لهذه المدينة لما خطر على باله (الفضيلة)، ولم يكن ليضرب بها المثال في أي شيء جميل أو أخلاقي.

بل لو كانت هذه المدينة موجودة لما انتقل للعيش فيها أي أحد ممن يتغنون بها، ويضربون بها الأمثال، ولو كانوا من سكانها لقفزوا من فوق أسوارها.

فنظام هذه المدينة أسوأ من أي نظام نازي أو فاشي حتى بمفهوم ذاك الزمان، وكل هذه الأنظمة الإجرامية وغيرها يدعي مؤسسوها أنها أفضل أنظمة، وأعدلها وأنها قائمة على الفضيلة بالضبط كما تدعي ذلك مدينة أفلاطون الفاضلة.

والمشكلة ليست في قدم فكرة المدينة الفاضلة مثلما قد يخطر على بال بعضهم، فالديمقراطية أقدم من أفلاطون وهو يسميها حكم الغوغاء، والقانون معروف قبل أفلاطون بأزمنة بعيدة مثل قانون حمورابي والحضارات السابقة لأفلاطون تحترم الشعراء والفنانين، وترعى ذوي الاحتياجات الخاصة بل تمنع الاستهزاء بهم والعبس في وجوههم، ففي مصر يقول آمون إم أوبت (لا تسخر من أعمى، ولا تهزأ من قزم، ولا تحتقر الرجل الأعرج، ولا تعبس في وجههم، فالإنسان صنع من طين وقش، والله هو خالقه، وهو القادر على أن يهدم، ويبني كل يوم)، وكذلك في الحضارة الآشورية شواهد كثيرة على احترامهم وتخليدهم لذوي الاحتياجات الخاصة ومحاولة علاجهم ومساعدتهم.

نحن هنا لا نقلل من شأن فلسفة أفلاطون أو أهميتها في مسيرة الفكر البشري، بل إن كتاب الجمهورية نفسه يعتبر تحفة في صياغة المحاورات التي ساقها أفلاطون على لسان معلمه،

ولكن نلفت الانتباه إلى نقطة مهمة، وهي أن كثيرًا من المفاهيم في ثقافات الناس اكتسبت وزنًا كبيرًا في عقولهم نتيجة لتكرارها فقط والذي قد تكون اكتسبته عندما وافقت أهواء ومصالح فئة ما في وقت ما فروجت له حتى أصبح «موضة»، وأصبح من يخالفها يبدو كشخص خرج من دائرة «المثقفين».