يحدث كثيرا أن يؤثر التوقع الذي يعتقده الشخص في سلوكه، ما يجعل الشخص يلوي أعناق الحقائق حتى توافق توقعه، وهو يُفعل ذلك في كثير من الأحيان على نحو غير مقصود. وبسبب هذه الظاهرة خُلقت خرافات مثل ما يسمى «الجذب» وغيرها، وكذلك شُوهت دراسات، وشُوشت أبحاث كثيرة، خصوصا في العلوم الاجتماعية، ويظهر أثر هذه الظاهرة على نحو جلي مع أن فيلسوف العلوم «كارل بوبر» يعتقد أن التشويه هذا طال حتى بعض العلوم الطبيعية مثل البيولوجيا.

ومن التجارب الشهيرة بهذا الخصوص اختيار باحثين عشوائيا مجموعة من الطلاب، وأبلغوا المعلمين أن هؤلاء الطلاب يمتلكون قدرات معرفية كبيرة، وأجريت اختبارات بعد ثمانية أشهر لهؤلاء الطلاب، وأظهرت النتائج تفوقًا كبيرًا لهذه المجموعة!

أيضا تجربة عالم النفس روبرت روزنتال - الذي درس هذه الظاهرة أكثر من خمسين عاما - على طلابه، حيث كلفهم بإجراء اختبارات على مجموعتين من الفئران، وأخبرهم أن المجموعة الأولى هي لسلالة فائقة الذكاء والمجموعة الثانية لفئران عادية، بينما في الحقيقة كانت المجموعتان لفئران عادية، ولكن أظهرت نتائج الاختبارات تفوقًا كبيرًا للمجموعة الأولى!


والحقيقة أن التجربتين تأثرتا باعتقاد القائمين عليهما، فارتكبوا أخطاء في التجربة بعضها دون قصد دفعت النتائج لمطابقة الاعتقاد.

ومن القصص الكثيرة في هذا السياق قصة «كاسر الإضراب» في مطلع القرن العشرين، حيث اعتقد الكثير من الناس أن العمال السود هم كاسرو الإضراب، أي الأشخاص الذين يعملون على الرغم من الإضراب، ما أدى إلى نبذهم من قِبل النقابات العمالية، وأدى ذلك إلى عدم قدرة العمال السود على العثور على وظائف موثوقة، ما أدى إلى لجوء الكثير منهم إلى كسر الإضراب من أجل الحصول على وظيفة.

مصاديق هذه الظاهرة كثيرة جدا، حتى أن الفرد عندما يتأمل في كثير من النتائج في الحياة اليومية حوله يجد مصاديق لهذه الظاهرة، بل يجدها أحيانا في أعمال لباحثين وعلماء، فمثلًا المستشرق «كارا دي فو»، وهو مثل جُل المستشرقين يعتنق السردية الكلاسيكية لقصة الفكر العربي الإسلامي، يقسم تاريخ الفكر إلى حقبتين: حقبة العصر الذهبي التي خلقها المعتزلة والترجمة العباسية، وحقبة الانحطاط التي خلقها كتاب الإمام الغزالي «تهافت الفلاسفة» والغزو المغولي.

فعندما اطلع «كارا دي فو» على عمل نصير الدين الطوسي (أي بعد الغزالي بأكثر من قرن ونصف القرن)، علق على الفصل الحادي عشر من كتاب «التذكرة في الهيئة» قائلا: «قد يكون الفصل، الذي سنعرض ترجمته، كافيًا لأن يشعر الناس بضعف العلوم الإسلامية وفقرها حتى حين أرادت أن تكون أصيلةً». وأكمل: «..وأهمية هذا الفصل ليست بالقصوى، ولكنه جدير بأن يُقرأ من باب التندر فقط».

اليوم يعتبر المختصون تراث الطوسي وهذا الكتاب، بل هذا الفصل بالذات، من أهم وأثمن ما كُتب في تلك القرون، وأصبح تعليق «كارا دي فو» هو الأجدر بالتندر، بل والعبرة.

وقد يكون السبب نفسه هو ما جعل كثيرا من الإنجازات العلمية، ومن علماء ذاك العصر مثل ابن النفيس، صاحب أكثر الكتب الطبية أهمية في العصور الوسطى، يبقى مجهولًا، ولم يعره أحد أي انتباه إلى عصر قريب، «فهو عربي يصنف من أبناء عصر الانحطاط».

ودراسات المستشرقين لتاريخ الفكر العربي الإسلامي غاصة بالأمثلة على ظاهرة التوقعات التي تحقق نفسها، لذلك أصبحت الحاجة ملحة لدراسة تاريخ الفكر العربي الإسلامي خارج الإطار الفكري الاستشراقي السائد -للأسف- إلى اليوم.