جميع الثقافات القومية تعتمد أشد الاعتماد على مفهوم الهوية الوطنية (National)، والسياسة القومية (Nationalist) هي سياسة هوية: للمصريين، أفريقيا للأفارقة الهند للهنود وهكذا، ما يطلق عليه، بازيل دافيدسون، تعبير «الخصوبة الغامضة للنزعة القومية» لا يكتفي بالتأكيد على هوية كانت ذات يوم منتقصة ومقموعة قبل إحيائها في أنظمة التربية الوطنية، بل يؤكد غرس سلطة جديدة في الأذهان ذلك صحيح في الولايات المتحدة أيضًا، حيث تحولت القوة المنشطة المعبرة عن الأفارقة الأمريكيين والنساء والأقليات إلى عقيدة هنا وهناك، كأن رغبتها في انتقاد أسطورة أمريكا البيضاء تعني أيضًا الحاجة إلى رفد تلك الأسطورة بأساطير جامدة جديدة في العلم. في الجزائر، على سبيل المثال، حظرت فرنسا استخدام اللغة العربية في التعليم والإدارة، وبعد عام 1962 قامت جبهة التحرير الوطنية -لأسباب مفهومة- بجعلها اللغة الرسمية الوحيدة، كما أقامت نظامًا جديدًا لتربية عربية - إسلامية، بعد ذلك انتقلت الجبهة إلى الاستيعاب السياسي لكامل المجتمع المدني الجزائري، خلال ثلاثة عقود أسفر الاصطفاف بين سلطة الحزب والدولة والهوية المستعادة عن احتكار حزب واحد لمعظم الممارسات السياسية، كما أسفر -في جناح اليمين- عن تحدي ظهور معارضة إسلامية تدعو إلى هوية إسلامية جزائرية ترتكز على مبادئ الشريعة.

فرانز فانون توقع مسار الأحداث هذا في الفصل الذي عقده لمزالق الوعي القومي، من كتابه «معذبو الأرض»، لقد اعتبر أنه ما لم يتحول الوعي الوطني -لحظة نجاحه- إلى وعي اجتماعي بطريقة أو بأخرى، فإن المستقبل لن يحمل التحرير بل تمديد الإمبريالية، ونظريته حول العنف لا تسعى إلى الاستجابة لنداءات ابن البلد الذي يتحرق تحت وطأة الرقابة الأبوية لرجل الشرطة الأوروبي.

وإذا كنت قد استشهدت بقانون مرارًا؛ فلأنه يعبر عن النقلة الثقافية الهائلة من حقل الاستقلال القومي إلى الحقل النظري للتحرير على نحو أكثر إثارة وحسمًا من الجميع كما أعتقد، كتلة أعمال قانون هي محاولة للتغلب على قساوة تلك الاجتهادات النظرية بوسيلة فعل الإرادة السياسية وردّها إلى تحر مؤلفيها بهدف التمكن من ابتكار نفوس جديدة، حسب التعبير الذي استعاره من سيزار فانون يربط على نحو معمق بين غزو المستوطن للتاريخ ونظام الحقيقة في عرف الإمبريالية، الذي تتسيده الأساطير الكبرى للثقافة الغربية المستوطن يصنع التاريخ؛ حياته حقبة وأوديسة، إنه البداية المطلقة، ونحن خلقنا هذه الأرض، فهو السبب الذي لا ينقطع: وإذا غادرنا سيضيع كل شيء، وسترتد البلاد إلى العصور الوسطى، أمامه وضده مخلوقات بليدة - تقتلها الحمى وتسكنها أعراف الأسلاف، وتكاد تشكل خلفية لا عضوية للدينامية المجددة الخاصة بالمركتالية الاستعمارية.


ومثلما حضر فرويد عميقًا للتوصل إلى الطبقات السفلى لصرح العقل الغربي، وفسر ماركس ونيتشه المعطيات المادية للمجتمع البرجوازي بوسيلة ترجمتها إلى حوافز بدائية -ولكنها إنتاجية- تسعى إلى الهيمنة والتراكم، كذلك قرأ فانون الإنسية الغربية بوسيلة نقل مضغة الغطرسة في التمثال الإغريقي اللاتيني إلى أرض الاستعمار الخراب، وحيث يتحول هذا الخفير المصطنع إلى هبائه، إنه عاجز عن تفادي إندغامه في الانحطاط اليومي الذي يصنعه المستوطنون الغربيون، طي تلميحات الهدم في كتابات فانون يكمن رجل رفيع الوعي يكرر على نحو مقصود وساخر تكتيكات الثقافة التي يؤمن بأنها قهرته الفارق بين فرويد وماركس ونيتشه من جهة والمثقف البلدي، على غرار فانون من جهة أخرى هو أن المفكر الاستعماري يثبت من سلفه جغرافيًا «واقعة انتمائهم إلى الغرب» ليمتلك فرصة أفضل في تحرير طاقاتهم من قالب القهر الثقافي الذي أنتجهم، وفانون يؤدي فصل الختام في الإمبراطورية، ويعلن حقبة جديدة حين ينظر بتضاد إلى أولئك المفكرين، ويرى فيهم جزءًا مكونًا للنظام الاستعماري، وحربًا كامنة على ذلك النظام في الآن ذاته.

1993*

* ناقد وأكاديمي فلسطيني / أمريكي «1935 - 2003»