القضية الفلسطينية هي قضية صراع عربي / إسرائيلي بالنسبة للكثيرين، الذين تقف ثقافتهم السياسية عندما يشاهدون على شاشة التلفزيون، على اختلاف المسميات التي تطلق على هذا الصراع، كمشكلات الأمن أو النزاع حول الحدود.

غير أن لب القضية وحقيقة المسألة هي الإنكار العنيد المتواصل من قبل إسرائيل وكثير من الحكومات الغربية، لوجود طموحات أربعة ملايين من المسلمين والمسيحيين العرب الذين تعرفهم إسرائيل وتلك الحكومات بأنهم هم الفلسطينيون، فهؤلاء هم جوهر المشكلة وقضيتها وهم المسألة الفلسطينية، وإذا كانت لا توجد دولة اليوم اسمها دولة فلسطين، فليس معنى ذلك عدم وجود الفلسطينيين - إنهم موجودون بالتأكيد. أي محاولة واعية لوضع الحقيقة الفلسطينية أمام أعين القراء عامة والقارئ الغربي بصفة خاصة لا بد أن توضح الهوية الفلسطينية المعاصرة لشرح الظروف والأحداث والعوامل التي حددت معالم تلك الهوية، وتحليل بتفصيل دقيق عمليات التخريب التدريجي ونزع المقومات الأساسية للهوية الفلسطينية عبر حركة الاستيطان الإسرائيلي وفي ظل السياسات الاستعمارية الأوروبية، وتبيان النجاح الصهيوني في إزاحة القوى والمؤسسات العربية الفلسطينية وعزلها عن أرض فلسطين، وكذلك الفشل العربي الفلسطيني في إدارة الصراع مع الصهيونية والقوى الاستعمارية الغربية المؤيدة لها أو الخاضعة لابتزازها.

فالتجربة الفلسطينية لا تعدو كونها معاناة الشعب الفلسطيني في مواجهة القوى العدوة والصديقة على حد سواء.. والأولى عالية التنظيم والكفاءة، كما لا يخفى.. والثانية هائلة الإمكانيات ولكن عديمة الفاعلية والجدوى.


أعتقد أن اتفاقيات كامب ديفيد عام 1979 كانت بمثابة مفترق الطرق بالنسبة للقضية الفلسطينية، في واقعها ومصيرها وأساليبها للتكيف مع المستجدات، التي أبقت القضية الفلسطينية في مأزقها مع ازدياد التأييد الأدبي للفلسطينيين ولمنظمة التحرير بالذات، وتفاقم عدوان إسرائيل وتعاظم دعم الولايات المتحدة لها (وهما حقيقتان أكدتها الأحداث الأخيرة في لبنان). وأستطيع أن أقر أن الإسرائيليين باقون في فلسطين، وأن الفلسطينيين أيضًا باقون، وأن على الجانبين أن يتقبلا فكرة العيش معا على الرغم من أن ذلك قد لا يحدث إلا بعد مواجهات عديدة دامية بينهما، ولا أنطلق في طرحي هذا من ضعف في انتمائي ولا من وهن في حماسي وعاطفتي القومية، بل من واقعية: باردة، تمليها علي حقائق الموقف الدولي في الشرق الأوسط. أضف إلى ذلك التحليل المنطقي، وهو أن فلسطين العربية الجغرافية قد تحولت في معظمها إلى ما هو الآن، وإسرائيل ذات الحدود غير المرسومة والغامضة والقابلة باستمرار للمد والتوسيع باتجاه أرض إسرائيل التوراتية، بيد أن فلسطين ما زالت تعيش كفكرة حية وتجربة إنسانية تعبر عن إرادة شعبية مثابرة لا تعرف الكلل. إن ظهور إسرائيل الصهيونية قد أدى في واقع الحال إلى اختفاء فلسطين العربية جغرافيًا، أما فلسطين العربية من حيث هي فكرة وتاريخ وصراع وأمل فما زالت باقية: وإلا فبماذا نفسر وجود أربعة ملايين فلسطيني مشتتين في بقاع الأرض، ما زالوا يحملون تلك الفكرة في مشاعرهم ووجدانهم وعملهم وتحركهم وتفكيرهم وما زالوا يعيشون قضية فلسطين؟

أما قضية ارتباط الفلسطينيين - في الذهنية الغربية - بالإرهاب، فلا يقارن ما يسمى بالإرهاب الفلسطيني بالإرهاب الصهيوني حجما ونوعا واستمرارية، أي بمقارنة الأضرار التي ألحقها كل طرف منهما بالطرف الآخر. والنقطة التي يجب أن أؤكد عليها هنا، هي أن العقلية الغربية التي تستنكر الإرهاب الفلسطيني لا تريد أن تدرك حقيقة الإرهاب الصهيوني الذي تمارسه إسرائيل بصورة منتظمة ومخططة. وهذا يرجع إلى تضليل الصحافة الغربية الخاضعة في معظمها للنفوذ الصهيوني وإلى الاستعداد النفسي المسبق - والمحضر جيدا بالدعاية الصهيونية البارعة - للنظر إلى الفلسطينيين باعتبارهم جزءًا من الشرق العربي الإسلامي المتخلف فحسب!!

المحاولات الصهيونية الشرسة التي اتخذت في البداية صورة: الاستعمار البناء، تلك الصورة التي سيطرت على العقلية الأوروبية الغربية تجاه شعوب الشرق في القرن التاسع عشر. وكيف نجحت هذه المحاولات في إزاحة ما مجموعه 780.000 عربي فلسطيني عن الأراضي الفلسطينية عام 1948، هم اللاجئون الفلسطينيون الذين يبلغ عددهم الآن حوالي المليونين. يقول موشي دايان في تصريح له لصحيفة هارتس يوم 1 إبريل عام 1969: ولقد قدمنا إلى هذه البلاد (فلسطين) وكانت مأهولة بالعرب لنقيم دولة يهودية وليس ثمة مكان على هذه الأرض لم يقطنه في السابق سكان عرب!!..

فاذا أضفنا إلى المليونين من اللاجئين حوالي مليون وسبعمائة ألف فلسطيني محتجزين في الأرض المحتلة منذ عام 1967، ومنهم نصف مليون في الأرض المحتلة منذ عام 1948، (بالأبعاد الإنسانية الأخلاقية لمعاناتهم) لأدركنا حجم الكارثة وثمنها من وجهة النظر الفلسطينية - الكارثة التي ترتبت على قيام الكيان الإسرائيلي!.

والجدير بالذكر هنا - أن جزءًا مهمًا وكبيرًا من الصراع للفوز بفلسطين قد خاضته الصهيونية على صعيد الإعلام في العواصم الغربية الرئيسية. يقول برنامج حزب العمل اليهودي وذلك قبل إنشاء إسرائيل: خاطبوا العالم على أنكم المظلومون وأظهروا للغرب الحر، أن بريطانيا هي عدوتكم. وتجاهلوا تماما السكان الأصليين!! لقد كان للحملة الصهيونية التي توجت باغتصاب فلسطين صدى وقبولا في الغرب - لا لشعور بالمحبة نحو اليهود أو كراهية نحو العرب - ولكن لأن الصهيونية نجحت في طرح نفسها كحركة تحرير لليهود المضطهدين، وكحل عملي لمشكلة العداء للسامية الذي كان منتشرا في الغرب. لقد قدمت الصهيونية للعقلية الغربية ما كان يتفق وتكوينها في تلك الفترة: مشروعا استعماريا وخططا دقيقة التنظيم، على أسس علمية وحضارية غربية، ويحل في نفس الوقت مشكلة الأقليات اليهودية في العالم، ويضمن راحة الضمير للأوروبيين وأين؟ في جزء من الشرق العربي الإسلامي، المتخلف، والقابل للاستعمار! وقد انتقلت فكرة تأييد الصهيونية إلى الولايات المتحدة فيما بعد، وورد في رسالة تأييد لإنشاء الدولة اليهودية في فلسطين، وقعها ستة من رجال الفكر الأمريكيين البارزين عام 1947، هناك عاملان أساسيان للاستقرار في الشرق الأوسط: فلسطين يهودية ولبنان مسيحي وما عداهما ليس إلا شرقا عربيا مسلما لا أمل يرجى منه...!!، وهكذا كان للتماثل في التفكير بين الصهيونية والعقلية الغربية أثره البعيد، وقامت إسرائيل كمحصلة واقعية لعملية استعمارية استيطانية محكمة التنظيم، استخدمت منذ البدء إزاحة شعب فلسطين العربي عن أرضه في مرحلة أولى، وإنكار وجوده أصلا في المرحلة الثانية لا عجب إذن أن نجحت الصهيونية في إقامة دولة إسرائيل، وأن أدى نجاحها إلى شعور العالم الغربي بالنشوة. ولكن هل أدى نجاحها هذا إلى حجب حقيقة الصهيونية عن وجدان الغرب.

هل يوجد في سوق الفكر الغربي الآن من يعرف أو يكون مستعدًا للإقرار بأن دولة اليهود في التاريخ القديم، وهي أساس حق اليهود في فلسطين كما يعتقد أهل الغرب لم تدم سوى ستين عاما فقط وذلك قبل ألفين من الستين؟ وأن إسرائيل إنما قامت على أرض لا صلة لها بها.. بل تخص الآخرين؟ وأن الصهيونية التي طالما أعجب الغرب بإنجازاتها إنما تعني وتهدف إلى القضاء على شعب آخر؟

1983*

* ناقد وأكاديمي فلسطيني / أمريكي «1935 - 2003»