قادتني الظروف الملحة إلى الوجود في إحدى المراكز الخاصة والمعنية بالحماية الاجتماعية، من أجل إنجاز عمل خاص بي، وفي أثناء مكوثي في صالة الانتظار الخاصة بهذا المركز كانت هناك عائلة صغيرة صرفت الأنظار ولفتت الانتباه، مكونة من رجلين، وامرأة مسنة كانت مجهدة إلى حد كبير أنهكها المرض، تمشي بتثاقل وبطء شديد، ينضح منها الحزن والأسى والحسرة، تحاول جاهدة أن تكفكف دموعها التي ابتلت غطاء وجهها، أظنها قد جاوزت العقد السابع من العمر -إن أنا أحسنت التقدير- برفقتها فتاة شابة يربو عمر هذه الفتاة على الثامنة عشرة سنة تقريبًا أو يزيد..

اتضح لاحقًا أن تلك المرأة المسنة هي والدتها التي حضرت لتقديم شكوى عقوق ضد ابنتها المتمردة، بعد أن استنفدت معها كل الطرق الممكنة لتقيمها وتصحيح سلوكها، وكانت تعاملها معاملة سيئة، في أثناء تجاذب الحديث مع المختص، وفجأة ودون مقدمات تذكر تفوهت هذه الابنة العاقة بكلمات غير لائقة على أمها، وادعت أن أمها «امرأة رجعية ومتخلفة، وليس ثمة توافق بينهما في الفكر، ولا يوجد تفاهم قائم يمكنها من خلاله الاستمرار معها في بيت واحد»، على حد زعمها، الأم المكلومة التي وثقت على ابنتها أفعال مشينة من خلال مقطع فيديو على جهازها الخاص، «كان في متناول الرجلين اللذين لم تتضح علاقتهما بالأمر حتى تلك اللحظة».

كانت صامتة من هول الموقف ومن جرأة ابنتها عليها أمام المختص، وعلى مسمع الناس خارج القاعة، ورغم الألم الذي اعتصر قلب الأم المحطمة نفسيًا، لم تكن تود أن يشتد بهما النقاش بهذا الشكل كما هو بين في تصرفها، فضلاً أن تكون هي وابنتها في هذا الموقف الحرج، هذه خلاصة ما سمعناه أنا ومجموعة من الموجودين في صالة الانتظار التي سادها الصمت وغلفها الهدوء، عدا صوت الابنة العاقة الذي كان مرتفعًا بصورة كبيرة جدًا، بلغ صداه خارج الغرفة المختصة بالنقاش.


وفي نهاية جلسة الحوار، التي طالت في سيل البحث عن حل لمعالجة تلك الحالة، ظهر تصرف غريب من طرف الأم الكسيرة المتشبعة بالآلام، حيث انكبت على استرضاء ابنتها، بدلاً من أن تقوم الابنة بفعل ذلك، توسل الأم ابنتها كي تعود معها إلى البيت كان موقفًا صادمًا ولافتًا في آن واحد بالنسبة للحضور، رأيت أثره على كل الوجوه المتواجدة المتوجمة، وجوه اختلط فيها الحزن بالأسى على الأم، والنقم والكراهية والبغض على الابنة التي لم ترحم شيبة أمها وكبر سنها ومرضها، فضلاً عن أن توقرها وتحترم أمومتها، استشعرت في تلك اللحظة كأب درجة الوجع والألم الذي سكن هذه الأم ومزق فؤادها الحنون، إحساس يصعب وصفه، ودون شعور مني تمتمت باللهم احفظ لنا أبنائنا وبارك لنا فيهم.. واجعلهم هداة مهتدين بارين بنا.. وأصرف عنهم رفقاء السوء يارب العالمين.