كانت النزعة اليسارية سائدة في القرن العشرين، بل هي (موضة) ذلك الزمن، فتأثر بها كتّاب كثر في مختلف المجالات، ورسموا بحروفهم صورة مثالية عن الاشتراكية، فرددوا وعودها بمستقبل تعيش في ظله الدول والمجتمعات متمتعة بالوفرة والغنى، والتآخي الإنساني الرفيع، بل لا يكاد المرء يُسمى مثقفًا حينها لو لم يكن ذا ميل يساري، فأمير الشعراء أحمد شوقي (1932) حين كتب قصيدة في مدح النبي صلى الله عليه وسلم (ولد الهدى) ضمنها بيتًا من الشعر وفيه:

الاشتراكيون أنت إمامهم***لولا دعاوى القوم والغلواء

وغنتها أم كلثوم في حديقة النادي الأهلي عام 1949 بمناسبة المولد النبوي، وكان نجيب محفوظ قد ضمّن كتبه مادة كبيرة في الانتصار للاشتراكية، بما انعكس على السينما المصرية لاحقًا، كذلك عبّاس العقّاد فهو وإن هاجم الشيوعية في (الشيوعية والإنسانية في شريعة الإسلام)، (لا شيوعية ولا استعمار) إلا أنه تعاطف مع الاشتراكية التي قيّدها بالديموقراطية ورأى أهمية وجودها في مصر في كتابه (يسألونك) وإنما خالف الشيوعية لموقفها من الدين، ولأنها ليست ديمقراطية برأيه، واعتبرها شكلًا متطرفًا من الاشتراكية، لا تمثّل ما يراه صوابًا، كذلك سيد قطب الذي كتب كتابه (معركة الإسلام والرأسمالية) وكرر الدعاوى الاشتراكية بمسحة دينية (العدالة الاجتماعية في الإسلام).


كان الأدباء والصحفيون في تلك المرحلة مفتونين بالاشتراكية، اغترارًا بدعايتها الكثيفة بأنَّها ستقضي على الفقر في العالم العربي وتضمن له التقدّم والريادة، وكان خلف تلك الدعاية دولة كبرى حينها وهي الاتحاد السوفيتي التي عمدت إلى دعم التوجهات اليسارية، وتوفير امتيازات للأحزاب اليسارية المختلفة، وصار العديد من الكتاب يلتمسون لهم سلفًا في هذا فكتب محمود الشلبي (اشتراكية أبي ذر) وهكذا تم صبغ التراث العربي الإسلامي بمطالب الحركة الاشتراكية التي نشأت في أوروبا! لجعلها أقرب إلى القارئ العربي.

بل لم يقتصر الأمر على مجال الدعاية، والأدب، فامتد إلى الحديث بلغة العلم! فعلي الوردي وهو حاصل على شهادة الدكتوراة في علم الاجتماع، ضمّن كتبه الكثير من المحاكمات الاشتراكية، مثل كتابه (وعّاظ السلاطين) الذي صوّر فيه الفقير كأنه غير مطالب بأيِّ مطلب أخلاقي، أو ديني، فما كان على الواعظ بنظره إلا أن يهاجم السلاطين في ذلك الزمان لا أن يخاطب الفقراء، إذ يكفيهم ما هم فيه! وما أن يجد واعظًا يعظ الناس، حتى يقرّعه بملاحظاته بأنَّ هذا السلوك هروب من مواجهة الأثرياء، حتى يكاد القارئ يتصورُّ أنَّ الفقر محّاء الخطايا، وأنَّ الغنى أخو السرقة، والاستغلال، والطغيان، والفساد، وهكذا يلتمس الوردي للفقراء كل عذر، ويرمي الأغنياء بكل نقيصة، ويغلّف هذا باسم التحليل العلمي، والبحث العلمي، ولا عجب، فقد كانت الشيوعية من قبل تسمي نفسها بـ(الاشتراكية العلمية)!

والمطالع لكتب تلك المرحلة، يدرك أيَّ أثر خلّفته في عقول كثير من الناس، إذ عمد اليساريون فيها إلى تغيير أسماء الأشياء إلى عناوين تسهّل عليهم مهمة نشر أيدلوجيتهم السياسية، فتضحي إثارة الأحقاد والحسد والضغينة في نفوس الفقراء بعنوان الوعي الطبقي، وتضحي الثروة: استكبارًا في الأرض، وانتزاع ملكية الأغنياء: عدالة اجتماعية، ومنع حرية التجارة: مكافحة الاستغلال، والدعوة إلى الفوضى وسفك الدماء: لحظة التغيير، وهكذا تم زج مجموعة وافرة من المصطلحات التي سهّلت الدعاية الاشتراكية، وبقي لها دلالاتها وإن اختلفت سياقاتها في الأزمنة اللاحقة.

فلا عجب ممن لا يتعاملون مع تلك الكتب وفق تحليل تاريخي، يكشف عن سياقها الذي نشأت فيه، ويقرأون دون عقل نقدي ينظر إلى ما يفنّد تلك الدعاوى سيّما وقد أظهرت الاشتراكية مآلها الواقعية التي تمثلت بقول أحد الساخرين منها: «لقد وعدوا بأنَّ يتحولّ الجميع إلى أغنياء، فإذا بهم قد جعلوا الجميع يشتركون في الفقر!»، إن لم يكن واعيًا بما يقرأه، فإنَّ القارئ سيترسّب فيه مسلّمات يسارية تتعامل مع الوطن على أنه حلبة صراع بين غني وفقير.

وقد بقي حتى اليوم أثر الدعوات اليسارية وقد يغلّفها العديد من المتحدّثين بمسحة دينية نسمع نشازها بين الحين والآخر، تقول بأنَّ النفط في الخليج حق للأمة، ليس لأهل الخليج فحسب! وقد يزيّن المتحدّث كلامه ببعض الآيات، ولا يدرك المتابعون بعدها أنَّ ما يقوله إنما مصدره الحركات الاشتراكية التي كانت حافلة في كتابات القرن الماضي.