جاء في الحديث الشريف: «المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور»، وهو أشد ما يصدق في التيارات المتطرفة التي نسبت آراءها إلى الإسلام زورًا، فتسببت بالفساد والإفساد، وكان مما أفسدوه تصويرهم لكثير من المسائل الشرعية، ومنها اشتراطهم أن تكون المحاكمات علنية، وزعموا أنَّ هذا من الإسلام، حتى يحكموا عليها بأنها عادلة، وإلا فإنهم يطعنون بها، وهذه الفكرة أجنبية عن الأحكام الفقهية في التراث الإسلامي، وليس لها منه نصيب، فالذي جاء في الكتب الفقهية أنَّ البينة تثبت أمام الحاكم والقاضي الشرعي، لا أمام الجمهور، وبعبارة رشيقة لتلميذ الإمام مالك، وهو ابن قاسم العتقي (191هـ) قال فيها: «الكشف في البينات على الإمام، دون الناس» فالقاضي متى ثبتت لديه بينة حكم بها، دون أن يشترط لذلك أن تكون علنية أمام الجمهور، ويجوز أن يكتب بثبوتها لديه إلى قاض آخر، أو منفذ للحكم، ولا يلزمه أن يقيم بينته مرة أخرى أمام القاضي الثاني أو المنفذ للحكم، وعلى هذا كان القضاء الإسلامي فيما مضى، وهو ما في مدونات الفقه.

أما في العقوبة وإنزالها فجاء قوله تعالى: (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين)، فهذا في إنزال العقوبة لكي تكون رادعة، لا في إظهار بينات القضية، ولازم ما يقولونه من شرط العلنية أنه لا يمتثل المنفذ لحكم القاضي حتى يقول له: أرني البينة التي حكمتَ بها! وهكذا يضحي كل واحد ملزم بقراءة اعترافات المتهم، ومراجعة أقوال الشهود، وأن يكون مؤهلًا ليعرف الأدلة من غيرها، أي أن يضحي قاضيًا مكان القاضي، وهذا لا أساس له في الفقه، ولا الشريعة.

فمن أين جاء اشتراط المحاكمات العلنية؟ جاء لعدة أسباب وظروف، وأخصها الثورة الفرنسية (1789) التي اعتبرت هزة كبرى للنظم السياسية في أوروبا، والأفكار والمعتقدات، وأهمها الدينية التي سادت حينها، وصارت المطالب بعدها ترى ضرورة أن تكون للشعب مشاركته السياسية، وأن يشرف الناس على الحكومة، وعلى القضاء، وغيرها، على أن هؤلاء الذين يتحدثون عن علنية المحاكمات كأنها شرط في العدالة باسم الشريعة، هم أنفسهم الذي سجلوا في أدبياتهم حملاتهم المتكررة على الثورة الفرنسية وما تلاها من أفكار في أوروبا، فقالوا: هي أساس العلمانية، وأنها بوابة تغيير الشريعة، ثم كانوا أسرع الناس في ترديد المطالب نفسها، وتغيير الأحكام الفقهية لكي يجاروا ما يسمعونه في أوروبا.


على أن اشتراط العلنية في المحاكمات لم يضمن العدالة في القضاء كذلك، ففي الاتحاد السوفيتي ما بين (1936-1938) شرع ستالين بحملة واسعة للقضاء على جميع خصومه في الحزب الشيوعي، بعد أن انقسم الحزب، فعقدت لذلك محاكمات عرفت بـ(محاكمات موسكو)، وظهر المتهمون علنًا وأذيعت اعترافاتهم بالخيانة، وكانت سياسة (النقاء الثوري) بتطهير الحزب الشيوعي من العناصر المندسة قد كلفت الاتحاد السوفيتي غاليًا، فقضت على الكفاءات في قيادات الجيش، فما أن جاءت الحرب العالمية الثانية (1939) حتى اجتاحتهم ألمانيا في وقت قياسي في العملية (بارباروسا)، ولولا أن السياسة الألمانية كانت دموية مع السكان المحليين، فدفعتهم إلى النقمة عليها، فضلًا عن التضاريس الروسية، ومناخها الصعب، لكان لـ(محاكمات موسكو) أثر أكبر في التأثير على مجريات الحرب، ومع وصول خروتشوف إلى السلطة بعد ستالين (1953) كشف ما كان في تلك المحاكمات وسط صدمة العالم عما كان يجري في ذلك العهد، ورفع شعار (اجتثاث الاستالينية).

والشاهد في هذا أن العلنية ليست ضمانًا للعدالة، بل تحت بند التزامها أقيمت أشد المحاكم دموية في التاريخ، وكانت محاكمات سياسية، لا تعتمد على أدلة يحكم بها القضاة، أما في القضاء الإسلامي فإن شروط القاضي تسعى لما يتجاوز فكرة إشراك الناس في نهمة المعرفة، فكم من قضية لها خصوصية، وقد تكون في الأعراض، أو فيها من تفاصيل الشهود التي يسمعها منهم القاضي، ما لا يصلح أن يذاع على الجمهور، فهي أسطورة تلك التي تلوكها ألسنة رموز إخوانية وهم يتحدثون عن علنية المحاكمات في الشريعة الإسلامية، ولا يجدون من يشترط هذا في الفقه الإسلامي، ولكنهم كما هو دأبهم يطوعون الأحكام الشرعية لتصوراتهم التي كشف تاريخهم أنهم حين كانت الموجة الاشتراكية مرتفعة كانوا يجعلون الشريعة موافقة لها، ثم صاروا يجعلون الشريعة موافقة اليوم للمعايير الليبرالية.