بعد ثلاث سنوات من ضرب اليابان بأخطر سلاح حينها وهو القنابل الذرية، أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة (1948) اعتمادها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ردًا على «الأفعال الهمجية التي آذت ضمير الإنسانية» أثناء الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، حينها احتفظ المنتصرون بموقع متميز لهم في الأمم المتحدة، بضمان الاحتفاظ دومًا بحق النقض لأي قرار يمس مصالحهم، ولم تكن الوثيقة المعتمدة في حقوق الإنسان تحمل صفة الإلزام القانوني.

كان هذا نذيرًا لما يمكن أن يحدث بعد، فقد ترددت مواد الإعلان العالمي في البروباغندا السياسية أثناء الصراع الكبير الذي انفجر بعد الحرب العالمية الثانية، حين انقسم العالم إلى كتلتين رئيسيتين: شرقية اشتراكية، وغربية رأسمالية، وبينهما جدار حديدي كما سماه رئيس الوزراء البريطاني تشرتشل، ومثّل فيه جدار برلين نموذجًا له وقد قُسمت ألمانيا المهزومة إلى شرقية وغربية.

في هذا الصراع سلّطت الدعاية الشرقية الضوء في دعايتها الموجهة ضد الغرب على مشكلات العنصرية، والتفاوت الطبقي، وخوض الحروب بالوكالة، والضغوط على دول العالم الثالث لجعلها تابعة لدول المركز، وفي المقابل كانت الدعاية الغربية الموجهة تسلّط الضوء على مشكلات حرية التعبير في الدول الشيوعية، والاضطهاد الديني، والتأكيد على الرقابة الحكومية لكل المرافق، والتدخل العسكري في الدول المختلفة، فكان الإعلان العالمي يتوزع على الأغراض السياسية بين الدول.


ومع انهيار الاتحاد السوفيتي (1991) ترقّب العالم نظامًا جديدًا، يخفت فيه الصراع، ويعلو فيه صوت الحكمة، وكان جورج بوش الأب قد أعلن في (1990) عن نظام عالمي جديد، وعد فيه بالحرية والسلام لكل الشعوب، وأضحى المصطلح (النظام العالمي الجديد) محل تحليل علماء السياسة، فما هو النظام الجديد؟ سماه بعضهم بنظام القطب الواحد، وهو انفراد الولايات المتحدة الأمريكية بالهيمنة على العالم، ونازع في هذا صامويل هنتنجتون حيث رأى أن هذا لا يمكن، فحتى الدول التي خفت ذكرها على صعيد السياسة العالمية لا تزال تحوي مقومات الدول الكبرى، وبهذا لا يمكن إقامة نظام على قطب واحد، وإنما هو مجرد انفراد في القرارات وسيكون لهذا عواقب بعد زمن.

وها هي النتائج مشاهدة، فلا السلام عم العالم، ولا تحققت حقبة الحرية الموعودة، وخلال هذه المدّة توالت الوثائق عن اختراق الولايات المتحدة نفسها لحقوق الإنسان مرارًا، فلا تصغي لصوت الحقوق إلا حين يتعلق الأمر بمصالحها الإستراتيجية، لن تسمع عن حقوق الإنسان فيما كلفه غزو العراق (2003) ولا عن التعذيب في سجونها، ولا وسائل الاعتقال والتحقيق والترحيل التي اعتمدتها بعد (2001)، وقد أعد لاري سيمز تقريرًا حافلًا عن تجاوزات الولايات المتحدة بعنوان (تقرير التعذيب؛ وثائق برنامج التعذيب الأمريكي بعد 11 سبتمبر) افتتحه بنص الميثاق المناهض للتعذيب: «لا يمكن أن تكون الظروف الاستثنائية مهما كانت، سواء كانت ظروف دولة، أو ظروف حرب أو تهديدًا بالحرب ذريعة للتعذيب»، وهو الميثاق الذي أجازته الولايات المتحدة سنة (1994).

تم تجاوز هذا بحجة الأمن القومي، والمصالح العليا، فباسم حقوق الإنسان، اخترقت حقوق الإنسان، وبدا أنَّ دولة مثل الولايات المتحدة تريد أن تكون حقوق الإنسان مرهونة بنزاعاتها السياسية مرة مع الصين، وأخرى مع روسيا، أو لتحقيق أهداف سياسية تتعلق بالمنطقة العربية، ولذا كان وزير الخارجية السعودي واضحًا حين قال: «لا نقبل الضغوط».

فليس سرًا أنَّ الولايات المتحدة ليست منظمة حقوقية، بل هي دولة عظمى لها مصالحها، ولم تحتكم في سياستها إلى لغة حقوق الإنسان، ومع تقادم الزمن كثرت التقارير التي أفادت علم بلير وبوش عدم امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، ولا حتى القدرة على هذا، كان هذا قبل الغزو بعامين على أقل تقدير، إلا أنهما اندفعا إلى تأكيد ذلك الادعاء لخوض الحرب التي كلفت الأرواح، وحطمت بلدًا كاملًا، فما الذي اتخذته بريطانيا والولايات المتحدة لتصحيح ذلك المسار، لرعاية حقوق الإنسان؟

بل تجاوز استغلال الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الأهداف السياسية، إلى حد السعي -عن طريق بعض شعاراته- إلى فرض ثقافة غربية على العالَم، دون مراعاة لاختلاف المفاهيم والثقافات فيه، وصار كل من لا يقبل اتباع المفاهيم الغربية يُصنّف وفق أجندة سياسية كأنه مخترق للحقوق، والواقع أنَّ الأهداف السياسية ونزعة فرض ثقافة محددة هي الحاضرة.