يحرص العديد من الناس على تقييم الدول من باب وحيد، وهو الجانب الأخلاقي، وفي غمرة إعطائهم لهذا الجانب بُعدًا هائلًا يقولون بأنَّ عدالة قضية يلزم منها أن تنتصر دومًا، بهذا يجعلون من الأحكام الأخلاقية قاعدة في الطبيعية نفسها، برغم أنَّ التاريخ لا يسعفهم في شواهده على هذا، فصحيح أنَّ العديد ممن كانت العدالة إلى جانبهم انتصروا، فإنّ التاريخ حفظ كذلك حكاية شعوب أبيدت وأضحت أحاديث رغم عدالة قضيتها.

فقد قُسم العالَم على أنه قديم وجديد، وبرغم أنَّ العالم الجديد هو قديم مأهولٌ بالبشر فإنَّ الذي جد هو وصول الأوروبيين إليه، وكانت أصوات الأسلحة المتطورة التي حملوها معهم أعلى من المنطق وعدالة القضية، وحدث الشيء نفسه في مصر وبلاد الشام، حين غزاها نابليون، فهالهم التقدّم التقني وهو يزيح وعود رجال وعدوهم بالنصر لعدالة قضيتهم، وأخلاقية شعوبهم، وكان التصنيع الحربي، والإدارة الحديثة حاسمة في هذا، حتى قال نابليون بأنَّ واحدًا من الجنود الذين حاربهم كان يمكنه أن يغلب جنديين من الفرنسيين، ولكنه بألف جندي فرنسي سيغلب جيشًا مقابلًا له حينها، بما يشير إلى التقنية والإدارة.

وفي ظل عالَم يحترم القوي، كان من يمكن تسميتهم بالمُفرطين أخلاقيًا، يهتمون بإبراز عدالة قضاياهم، والتأكيد على جانبها الأخلاقي والمبدئي، على حساب فهمهم للعالَم، فكانوا كلما سارت الرياح بما لا يشتهون، زادوا من لعنتهم للعالَم، وأظهروا أنَّه ظلمهم ولا يعتني بهم، ويسلّون أنفسهم بأنَّ قضيتهم العادلة ستنتصر حتمًا، على أنهم كان لا بد أن يعوا الدرس باكرًا بأنَّ الدول الكبرى التي قامت لم يكن هذا بالضرورة على أساس عدالة قضيتها، بل على مهارة سياسية، وإنتاج صناعي، وتقدّم اقتصادي، وقوّة عسكرية، وأنَّ الذين يبالغون في شأن تقييم دور عدالة القضية في قيام الدول يعوّلون في الهزيمة والنصر على ما لا يمس الواقع بكبير صلة، فلا تلازم بين عدالة قضية وأن تكون النهاية سعيدة دومًا، فكم من نهاية لمظلوم دون نصير أو مجير.


وقد أصيب العالَم بالطاعون على سبيل المثال، واستشهد فيه خيرة الصحابة كأبي عبيدة الجرّاح، أمين هذه الأمة، ومن معه من المسلمين، فخيرة هؤلاء الصحابة لم تمنع أن يسري عليهم قانون الطبيعة في الأمراض، وما أن تقدّم العلم، حتى انقرض تهديد الطاعون، ولم يعد نازلة لا مدفع لها، فأضحى من يصاب به أنفار دون أن يتحوّل إلى جائحة عالمية، وهذا يظهر ما في التقدّم من منحة للدول ومواطنيها، وأنّه قد يحمي من لا يُعَدُّ فاضلًا في ميزان الأخلاق، ويهلك دونه صالح من كبار أهل الفضل والخلق.

وعلى صعيد السياسة، فإنَّ الإدانة الأخلاقية لن تفكك رؤوسًا نووية، وقيل بأنَّ واحدًا بمسدّس يغلب عشرة يمتلكون أقوى الحجج، وبهذا فإنَّ هذا الإفراط في دور الأخلاق على صعيد انتصار الدول وهزيمتها يجب أن يراجع، ليكون التركيز على التقدّم، والنظر الاستراتيجي، والوزن الصناعي للبلاد، وبرغم وضوح هذا فيما هو مشاهد فإنَّ العديد من الناس يحاولون خلط نظرتهم تلك بشيء من الهالة الدينية، ويغفلون عن كون الدين نفسه قد أكد على أنَّ العدالة المطلقة تكون في الآخرة، لا الدنيا، يقتص حينها المظلوم من ظالمه، ولا يلزم من هذا أن ينتصر كل مظلوم في الدنيا، وأن تسود كل دولة فيها أخلاق حميدة، إذ يبعث يوم القيامة النبي ومعه الرجل والرجلان، ويبعث الآخر وليس معه أحد.

على أنَّ القضية المذكورة بأهمية عدالة قضية ما للانتصار الحتمي قد تنقلب أحيانًا، فيقلبها بعض هؤلاء المفرطون أخلاقيًا، فيجعلون تقيمهم الأخلاقي معولًا لهدم دولهم، فرغم أن الدولة قد توفر لهم كل ما يحتاجونه من أمن، واقتصاد، إلا أنَّ الواحد منهم يجد ما لا يتفق مع أحكامه الأخلاقية، فيسارع إلى أن يكون معول هدم لدولته بحجة أنه يرى فيها ما لا يتفق مع قواعده الأخلاقية في كل شأن، ويغفل عن أنَّ الدولة هي ملاذه الذي به استطاع أنْ يفكّر بطريقته تلك، وإلا فدونها سيضطر إلى حالات الضرورة، وعنده يقول: للضرورة أحكام سواء في تشريده، أو بعد معاناته ويلات حرب! فهلّا كان من البداية، فما كان لأحكامه أن تسوّغ هدم بيته بيديه، فقد يكون المرء أخلاقيًا ويفشل في السياسة، وقد لا يكون أخلاقيًا وينجح فيها، وفيما يُنقل عن عمر بن الخطاب: اللهم إني أشكو إليك عجز الثقة، وجلَد الفاجر، فلا تلازم بين انتصار لعدالة قضية، ولا فشلها لأنها غير عادلة.

نافذة:

الإفراط في دور الأخلاق على صعيد انتصار الدول وهزيمتها يجب أن يراجع، ليكون التركيز على التقدّم، والنظر الاستراتيجي، والوزن الصناعي للبلاد.