ندخل العالم بسجل فارغ، جاهلين بما سيأتي، لكننا نغادر بحكايات لا تعد ولا تحصى، حفرت في كيان من حولنا من الأسرة والأصدقاء والمعارف.. «نغادر»؟! هو «الموت» ونحن نلبسه أثوابًا كي نستطيع أن نذكره: رحل، غادر، انتقل إلى... المشكلة ليست فيمن رحل بل فيمن بقي!

عندما يموت أحد أحبائنا، بغض النظر عن مدى استعدادنا للموت وإيماننا العميق بأن الموت ليس سوى مرحلة انتقالية لبداية دار الآخرة، يبقى الأمر بمثابة صدمة.. فاجعة تدمي القلب؛ إن كان عمره تسعة وتسعين عامًا أم مجرد أيام، إن كان مريضًا أو نتيجة حادث، بل حتى لو كان خلال النوم، يبقى الألم يجتاح الروح بهجمات شديدة حتى يأسرها، ورغم مواساة جميع من أتى حاملًا معه كلمات الرحمة والتعاطف والمحبة، تبقى الحقيقة المرة أننا لسنا مستعدين أبدًا لموت أحد.. أي أحد، فالحزن مثل الحبيب النرجسي يريدك لنفسه، تتملك عقولنا وكياننا كله فكرة واحدة ورغبة واحدة فقط، عودة الراحل من الموت، أن نستيقظ من الصدمة ونجد أننا كنا نتخبط بين براثن كابوس مرعب!

للكثير منا - ولن أتحدث بلسان الجميع- نجد أن وجود بعض الناس في حياتنا هو في صميم رغبتنا بالحياة، وعندما يرحلون نتحطم، نتناثر كقطع من الزجاج المكسور. يبدو الأمر كما لو أنهم أخذوا معهم ما كان يجمعنا مع العالم من حولنا، ونتسمّر في حالة ذهول، تعتري وجوهنا نظرات غارقة في اللانهاية، وكل ما نراه هو محيط شاسع من السواد يعتصر قلوبنا حزنا وألمًا.

قد يبدو أن موت شخص عزيز نهاية لقصة، لكنه في الواقع مجرد بداية فصل جديد، حالما تتعدى الصدمة الأولى تمد يدك وتبدأ بسحب كتب منسية من زوايا أروقة الذاكرة، وتمرر عينيك بين الصفحات لتستعيد الذكريات التي سطرت بمحبة ونقشت بأدمع. إنها رحلة حياة ومشاركة، ليست فقط الأوقات الجميلة ولكن أيضًا الأوقات الحزينة وحتى العصيبة منها، نبدأ في تذكر الأشياء الصغيرة - الطريقة التي تلمع بها عيناه عندما كان يضحك.. نغمة طرقات أصابعه على الباب، أو حتى طريقة إعداده القهوة مع ربع كوب من الحليب أو ملعقتين من السكر.

إن صدمة الموت تشبه بدء كتابة أحداث رواية من الوسط أو النهاية! وهي اللحظة التي يموت فيها الغالي على قلوبنا، في تلك اللحظة تتدفق العواطف وتشتعل، نكون حينها في حالة صدمة وعدم تصديق، غير قادرين على فهم ما حدث، يبدو وكأن العالم قد توقف عن الدوران، والوقت قد تجمد. تجتاح عقولنا حالة من الفوضى ونحن نحاول معالجة حقيقة ما حدث! ثم ببطء نبدأ في التعامل مع الخسارة، نبدأ رحلة العودة عبر غرف الذاكرة المنزوية.. تندفع إلى الوعي الصور والمشاهد كالماء الذي يفجر جدران سد.. لحظات قضيناها سويًا تتجمع لتشكل لوحة من الطبيعة الحية حيث تتكشف شيئًا فشيئًا أمام أعيننا نغمة صوته، رائحة عطره، دفء لمساته؛ خطوات تقودنا خلال الألم تساعدنا على استرجاع ما ترك من المحبة والطيبة والجمال في حياتنا. نجد أنفسنا نبتسم ونضحك ونحن نتذكر الأوقات السعيدة، ونبكي ونتألم ونحن نتذكر الأوقات العصيبة، ولكن من خلال كل ذلك، نجد العزاء في حقيقة أنه الآن في مكان أفضل عند رب رحمن رحيم.

بالرغم من الألم الذي يأتي بعد الخسارة، فإنه يجعلنا ندرك أيضًا كم هي الحياة ثمينة. يجعلنا نقدر الأشياء الصغيرة في الحياة التي غالبًا ما نأخذها كأمر مسلم به. يذكرنا أنه في يوم من الأيام سوف تنتهي زيارتنا ويأتي دورنا كي نرحل، وكل ما نتركه وراءنا هو إرثنا، قصص تروى وعِبر تًدرك وإلهام يًضيء.. هذا ما نصبوا إليه. قد نعتقد أن قصة المتوفى لم تكتمل، الإنجازات التي كان يجب بلوغها، والاحتفالات التي كانت ستقام، والقلوب التي كان يجب أن تلامس وتحتضن.. ربما نكون قد فشلنا في رؤية القصة تتكشف بينما كان لا يزال يعيش بيننا وأمام أعيننا، ولكن من خلال التفكير فيها الآن، يمكننا تتبع الحبكة من خلال خيوط الذاكرة، فمن خلال العودة إلى ذكراه، إلى قصصه، يمكننا المضي قدمًا ونكمل نحن قصصنا التي تقاطعت يومًا بقصته.. بتأثيره وما تركه لنا من كنوز الذكريات!

نعم قد لا يكون أحباؤنا موجودون جسديًا، لكن ذكراهم ما زالت قائمة، إن الفصل الأخير من الرواية ليس بالضرورة النهاية، بل البداية لمرحلة جديدة نواصل فيها إرثهم، نُكرم أرواحهم بينما نحن نسعى في رسم خطوط المستقبل. قد نشعر بوخز الضمير لأننا فكرنا أن نستمر، ولكن الأمر ليس بخيانة لأنه في الحقيقة علاقتنا بهم لا تنتهي بالموت، تنمو قصصهم داخل ذواتنا كلما وصلنا ذكر روح لامسوها، قلبا أسعدوه، خاطرًا جبروه، ونكمل نحن مسيرة الوفاء ليصلهم أجر كل أسرة سترت، كل مريض شفي، كل طالب علم تخرج، وكل مسجد شيد أو بئر ماء حفرت نتيجة صدقة جارية أنشأناها لهم.

إن ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا مرتبط بهم لأنهم كانوا يوما بيننا.. نسيجًا جميلًا تجاوز حدود الزمن!

نعم الوداع مؤلم، لكنه أيضًا فرصة للتأمل في إرثهم وتقديره والمضي قدمًا فيه، فنهاية نفس ليست نهاية الحياة، بل بداية فصل جديد تلهمنا فيه الذكريات، أن نُقَدّر ما بين أيدينا بينما نستعد للآخرة، وأن نتابع شغفنا، يعزينا معرفة أن قصص من رحل من أعزائنا لن تنتهي بموتهم بل ستستمر طالما أنهم في قلوبنا وفي وجداننا، ندعو لهم ونتصدق عنهم.. أمواتنا لا يُنسَون، نبقيهم دائما في ذاكرتنا.. إلى الأبد في قلوبنا.

اللهُمَّ ارحمَ أموتانَا وأموات المسلمينَ، اللهم اغفر لهم وارحمهم، ووسع مدخلهم وأسكنهم فسيح جنَّاتك، يا رحمن، يا منان، يا أكرم الأكرمين، يا رب العالمين.