انقضى القرن العشرون عصر التطرفات (1914-1991) بعبارة هوبزباوم، ففيه احتدت المواقف، وعلت أصوات الأيدلوجيا من التطرف العرقي إلى الطبقي إلى الوطني، فخاض فيه البشر حروبًا طاحنة، استعملت فيها أشرس الأسلحة المستحدثة، وكان خاتمتها ضرب اليابان بالقنابل الذرية (1945).

بعد تلك السنوات المريرة، استيقظ العالَم على خبر تسرب مفاعل تشرنوبل (1986) تلك الحادثة التي جعلت بعض المراقبين يؤرخون بها بداية تفكك الاتحاد السوفيتي، دق حينها ناقوس خطر التسرب الإشعاعي حين علم العالم أن ذلك التسرب كاد يودي بمناطق شاسعة من أوروبا، بما فتح الأعين على خطر قابع في قلب الدول المتقدمة.

وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي ترقب العالم ما الذي يمكنه أن يحدث؟


أعلنت الولايات المتحدة عن قيام نظام عالمي جديد، وفي (1996) خرج صمويل هنتجتون بكتابه الشهير «صراع الحضارات»، فحاول فيه تلمس جواب عن سؤال: ما الذي اختلف في العالم، بعد انهيار التجربة الشيوعية؟ فرصد إعادة الدول تشكيل هويتها على أسس قومية مخالفة لما سبق طرحه من عقائد سياسية، وحذر بأن هذا السلوك يدفع إلى غلق الأبواب في وجه الحوار والتفاهمات.

ففي الماضي كان يمكن أن يجري حوار بين المختلفين على النظام الاقتصادي، يمكن أن يقال للأمريكي وجهة النظر الروسية في الاقتصاد، والعكس، لكن حين تصبح القضية قومية لن يتحول الأمريكي إلى صيني، ولا العكس ولن يخاطب أحدٌ غيره على هذا الأساس، ولعل أهمَّ ما يمكن أن يحتج به صمويل اليوم لدعم كلامه، أعمال إلكسندر دوجين الذي سعى إلى إعادة تعريف الهوية الروسية على أسس قومية مشتركة، ثم البحث عن مصالحها الجيوسياسية، دون أي جدال في الأفكار السياسية التي يمكن أن يخاطب بها الآخر.

لم تتوقف أعمال هنتنجتون، فكتب «القوة العظمى الانفرادية، البعد الجديد للقوة»، وتعرض فيه لمفهوم أحادية القطب في العالم ما بعد (1991) وكان يبحث عن حقيقة تحول العالم إلى قطب واحد، دولة وحيدة تعتبر نفسها شرطي العالم، وهي الولايات المتحدة الأمريكية، ليجد أنّ العالم لا يمكنه أن تنفرد فيه قوة عظمى، فالدول الأخرى موجودة، ولها مصالحها، فروسيا وإن انكفأت على نفسها قليلًا إلا أنها موجودة، كذلك الصين كانت تتسارع حينها نحو الصعود الاقتصادي، فرأى صمويل بأن تصوير انقسام العالم إلى قطب أوحد يعني بكل وضوح تجاهل وجود تلك الدول وشعوبها، فهي إن سكتت حينًا إلا أن الأمور ستذهب إلى التصعيد والتجاذب ولو بعد حين.

وهذا يشمل باقي الدول دون استثناء فحين تلعب دولة وحيدة دور حارس الكوكب، ستنظر إلى مصالحها فحسب، دون أن تشارك رؤيتها مع باقي العالم، وتتعامل معهم باحترام المتفهم لمصالحهم، هنا يُستبدل التفاهم بالاستئثار بما ينتجه من ضغائن، وبدل أن يقدم القرن الواحد والعشرون على تشارك بين دول العالم فإنه يقدم على عداء متوارث، ومصالح مهضومة، وعن تقارب بين الدول التي تجد مصالحها مهددة، للوقوف ضد من يهددها.

قدمت رؤية صمويل هنتنجتون تحذيرًا من انفراد القوة الأحادية، داعيًا إلى التشارك والتفاهم، لكن ها نحن في بداية القرن الواحد والعشرين، وقد ظهرت نتائج تجاهل تحذيراته، فحين تمنى العالم طي صفحة التوترات التي اشتدت بين روسيا والولايات المتحدة في عصر التطرفات، إذا بها تطل من جديد، بعنف وانفجارات، وفي آخر حدث في الحرب الروسية الأوكرانية التي تصر موسكو على تسميتها بالعملية العسكرية، أسقط الجنود الأوكرانيين طائرة مسيرة فإذا بها صينية.

تحتفظ الصين بتاريخ طويل من التوتر في العلاقات مع الولايات المتحدة، وهي التي تبنت شعارات العالم الشيوعي، واشتركت في الحرب الكورية (1950-1953)، ودعمت الشيوعيين في الحرب الفيتنامية (1975)، ثم اتجهت نحو الاقتصاد الرأسمالي، وتأمين مصالحها القومية، فكان وجود طائرات مسيرة للصين في أوكرانيا يبعث إشارة بأن دعم تايوان ضد الصين سيكون له تداعياته على موقف الصين من الحرب في أوكرانيا.

يرافق هذا نقاشٌ محتد في الولايات المتحدة حول جدوى دعم أوكرانيا والتكلفة الباهظة لهذا اقتصاديًا، مع تزايد التوتر مع الصين، التي أعلنت عن زيارة مرتقبة للرئيس الصيني لموسكو، في عالم يسارع إلى الاستقطاب، كضريبة على الفراغ الذي أحدثه تغير التوازن السياسي فيه بعد (1991) وتبقى التحديات المقبلة، في إمكانية إقامة تفاهمات وسط هذا الصراع الكبير.