ولكن السؤال هل هذه هي الرواية الصحيحة؟وهل نظرية كوبرنيكوس كانت أصيلة ومن بنات أفكاره؟ وهل هو أول من شكك في نظرية بطليموس؟ أم أنه بنى نظريته على علم سابق له وتعمد لسبب أو لآخر عدم ذكره؟ كما فعل ذلك كثير من علماء ذلك الزمان.
أولًا وقبل الغوص في هذا البحث، يتفق الجميع أن المعارف والعلوم تراكمية، بمعنى أن كل حضارة استفادت من الحضارات السابقة، وهكذا دواليك. فالحضارة العربية -على سبيل المثال- أخذت من علوم الحضارات الأخرى مثل الحضارة اليونانية والهندية والصينية، وكان المسلمون ينقلون بأمانة تحفظ لكل صاحب فضل فضله، ولا يحبون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا، وبعد أن يذكروا صاحب العلم أو الفكرة يضيفون إليها الإضافات إذا وجدت أو يطورون الفكرة أو ينقدوها، مثلما سنرى مع نظرية بطليموس في الفلك، فقد انتقدها كثير من الفلكيين المسلمين مثل العالم العربي الشهير ابن الهيثم في كتابه (الشكوك على بطليموس)،وكذلك العالم العربي ابن الشاطر، والكثير من علماء المسلمين انتقدوا وشككوا في نظريات بطليموس قبل كوبرنيكوس بقرون، بل وأثبتوا دوران الأرض حول محورها مثل أبو الريحان البيروني في كتابه مفتاح علم الفلك وغيره من علماء المسلمين.
ولكن ظل الفضل حصريًا للقس كوبرنيكوس، وظلت الرواية تؤكد أصالة النظرية له لما يقارب الخمسة قرون.
ثم بدأت تظهر أصوات قليلة جدًا وخافتة، قد يكون الحرج من الخوض في هذه القضية هو بسبب هالة القداسة التي أضفيت على كوبرنيكوس، ولكن بعد أن ترجمت كثير من المخططات الإسلامية بعد وفاة كوبرنيكوس، وأيضًا حديثًا اكتشفت مخطوطات عربية للعالم العربي العظيم ابن الشاطر في بولندا حيث عاش كوبرنيكوس، تزايدت الشكوك حول أصالة نظرية كوبرنيكوس.
وجدير بالذكر أن كثيرًا من أعمال ابن الشاطر وغيره من علماء المسلمين لا تزال مفقودة وهذا يثير تساؤلًا عما إذا ظهرت هل سنكتشف أن فيها علومًا ومعلومات تم مصادرتها مثل ما صودر غيرها؟! ومن المفقودات - مثلًا - كتاب ابن الشاطر (تعليق الأرصاد) وهو على ما يبدو كتاب مهم جدًا ومتخصص في نقد نظرية بطليموس، وقد قال عنه ابن الشاطر نفسه في مقدمة كتاب (نهاية السؤال في تصحيح الأصول): «وقد تتبعنا تلك الشكوك الواردة على تلك الأصول وشرحنا ذلك في كتاب سميناه تعليق الأرصاد».
في عام 2018 كتب البروفيسور مايكل نوسونوفسكي بحثًا بعنوان (الرابط المفقود بين نصرالدين الطوسي ونيكولاس كوبرنيكوس) يقول نظرية الزوجين للطوسي هي عنصر أساسي في نظام مركزية الشمس، ويقول إن الشكليات الرياضية لعلماء المسلمين في مرصد مراغة متطابقة مع الشكليات الرياضية التي وضعها كوبرنيكوس!.
ويقول البروفيسور ويلي هارتنر رئيس الأكاديمية الدولية لتاريخ العلوم في كتابه (كوبرنيكوس الرجل العمل وتاريخه) معلقًا على التطابق بين براهين ورسوم كوبرنيكوس والطوسي أن (التفسير المنطقي يقول إن كوبرنيكوس بلا شك قد اطلع على أعمال الطوسي).
ويلاحظ أي مطلع على النماذج القمرية عند كوبرنيكوس أنها مطابقة تمامًا لنماذج مدرسة مراغة، وأن كوبرنيكوس استنسخها بتفاصيلها ولم يغفل إلا عن أسماء أصحابها، حتى أن بعض المحققين وجد أخطاء حسابية وقع فيها ابن الشاطر في بعض براهينه، ووجد أن كوبرنيكوس نقل البراهين نفسها ،بالأخطاء نفسها !
ويقول البروفيسور جورج صليبيا، إن كوبرنيكوس أخذ مزدوجة الطوسي ولم يذكر أنها للطوسي، ثم عندما أراد أن يبرهن على المزدوجة استنسخ برهنة العالم العربي ابن الشاطر وحتى في الرسمة وضع الرسمة نفسها الموجودة في كتاب ابن الشاطر، وكما في رسمة ابن الشاطر وضع في رسمته ستة أحرف في الأماكن نفسها التي في رسمة ابن الشاطر، ولكن وضع الحروف اللاتينية التي تقابل الحروف العربي في النطق وبترتيب أبجد هوز عدا حرف الزاي وضع الـ F مقابلا له !
وأيضًا عندما أخذ يشرح حركة كوكب عطارد -وعطارد كما يقول كوبرنيكوس من أصعب الكواكب- استخدم الرسم الهندسي نفسه الموجود في كتاب ابن الشاطر، ولكن ارتكب أخطاء في الشرح توحي بأنه لم يكن يفهم كيف كان الرسم الذي نقله يُطبق على الواقع، ولم يكن يفهم كلام ابن الشاطر بشكل كامل وصحيح.
وهذا ما جعل عالم الفلك نويل سويردلو وغيره يتساءلون: هل هذا يعني أن كوبرنيكوس نسخ أشياء وهو لم يكن يفهمها بشكل كامل !؟