عالم الأحلام ليس سوى تعبير وانعكاس لأعمق رغباتنا ومخاوفنا، وآمالنا وندمنا، وأفراحنا وأحزاننا، إنه شهادة على الروح البشرية، وقدرتنا اللامحدودة على الخيال والإبداع، على إيجاد العزاء والراحة في الأماكن غير المحتملة، فهو يذكرنا أن الحياة رحلة بحث لا تنتهي عن الحقيقة وعن المعنى، وأن الطريقة الوحيدة للتغلب على مفارقتها وتناقضاتها،هي احتضانها بعقل شغوف وقلب مفتوح وخيال بلا حدود.

أتذكر عندما كنت في المدرسة «الداخلي» الابتدائية، حدث بإحدى العطل الشتوية حيث تحضر الأسر لاصطحاب أبنائهم لقضاء تلك الفترة معهم، ولكن لأسباب - علمتها فيما بعد- لم يأت أحد لاصطحابي، وجدتني وحيدة في السكن الداخلي أقضي وقتي ما بين أروقة المباني الفارغة أو مع أحب أصدقائي«الكتاب».

في أحد الأيام وبينما أنا أهم بالخروج، وعند أسفل الدرج وجدت الخادمة التي تعمل في المدرسة، منهمكة في التنظيف عند آخر الدرجات، لا أعلم لماذا جلست في مكاني على الأرض وأخذت أتأملها في صمت، كانت في الأربعينات من عمرها، رثة الملابس بيدين ممتلئتين يغلب عليهما الاحمرار والتشقق، وجهها كحبة الطماطم لونًا وشكلًا، وجسدها يكاد يصرخ، يريد التحرر من ضغوط الخرق الرثة التي كانت تحتويه.

وبينما هي منشغلة بقطعة القماش المهترئة التي تلقيها في جردل الماء وحينا تعصرها، وحينا تهاجهم بها الدرج وكأنها تلعنه، كنت أرقبها، شدني سحرها الذي لا أعلم من أين أتت به ولكنه لسبب ما جذبني إليها. فجأة رفعت رأسها ورأتني، عندها أضاءت وجهها ابتسامة كشفت عن غمازين وسط خديها، ثم سألتني لماذا لم أخرج مع عائلتي مثل البقية؟ وعندما أخبرتها أنه لم يأت أحد لاصطحابي، مسحت عرق جبينها وقالت: «أما أنا فبقيت هنا باختياري».

كيف؟! من يريد أن يبقى هنا خلال الإجازة بعيدًا عن أهله وأحبابه؟! وفوق ذلك يعمل حتى تتشقق يداه من العمل في عز البرد! وكأنها كانت تقرأ أفكاري سارعت قائلة: «كان بوسعي أن أترك كل ذلك وأرحل إلى مكان دافئ مع شريك يحبني ويعتني بي... ألا تصدقين؟!»، هززت رأسي بالإيجاب وأنا أنظر إلى الأرض كي لا ترى ما تعكسه عيناي من تعجب! عندها شاركتني قصة لا بد أنها كانت من نسج خيالها أو من عالم الأحلام الذي كانت تعيشه، كانت تصف الأحداث بدقة لدرجة أنها نجحت في سحبي لعالمها ووجدتني كأني أعيش اللحظات معها، وصفت لي ذاك الفارس الوسيم الثري الذي أحبها بجنون حتى طلبها للزواج وهي التي رفضت حبه.... وللحظة صدقتها! كنت بحاجة إلى تصديقها؛ أردت الهرب معها إلى ذاك العالم الخيالي حيث كان كل شيء سحريًا ومثاليًا! ومع مرور الحياة والتجارب، أدركت أن الخادمة كانت تهرب إلى عالم أحلامها كوسيلة لنسيان واقعها القاسي. لكن في ذلك اليوم، بدأت أحلم أيضًا، أتخيل عالمًا حيث كل شيء ممكن.... ومنذ تلك اللحظة، تعلمت أن الهروب إلى عالم الأحلام في بعض الأحيان هو أفضل طريقة للتعامل مع تحديات العالم الحقيقي.

عالم من العجائب والخيال الخالص، حيث يصبح المستحيل ممكنًا، تتحقق الأحلام، يزول الحزن والألم؛ في أفضل وأسوأ الأوقات، عالم من الحكمة والغباء، والإيمان والريبة، والنور والظلام، والأمل واليأس، فبالنسبة للكثير ممن يعيش الحزن والألم، ممن ينشد السعادة ولا يجدها، يصبح عالم الأحلام هو الهروب الوحيد من واقع لا يطاق، يلجؤون إليه في لحظات الضعف، عندما تصبح مشاكلهم أكبر من أن تحتمل، عندما يحتاجون لفترة راحة من قسوة حياتهم. في عالم الأحلام، يمكن أن يكونوا أي شخص ويفعلون أي شيء يريدونه، بعيدًا عن حكم الغير أو التعرض للانتقاد، أحرار من أي سلاسل تُقيدهم إلى أرض الواقع.

لكن عالم الأحلام مكانٌ خطير أيضًا، مكان يمكن أن يلتهم الحالم ويزيد في بؤسه. من السهل أن تضيع في أوهام الأحلام، وأن تنغمس في عجائبه الخيالية لدرجة أنك تنسى وجود العالم الحقيقي. إنها مخاطرة، فقد تجد نفسك محاصرًا في عالم لا يوجد فيه شيء حقيقي، حيث لن تكون فيه أكثر من ظلال وصدى للذات.

ومع ذلك، رغم المخاطر، يستمر الكثيرون في العودة لعالم الأحلام، باحثين عن الملجأ والعزاء في أحضانه، ورغم أنهم ربما يدركون أن عالم الأحلام يمكن أن يكون سيفًا ذا حدين، يجدون أن مقاومة إغراءاته ووعوده بالحرية والجمال والاندهاش من الصعب التغلب عليها أو تجاهلها. أقرب وصف لعالم الأحلام ذو الطبيعة المتناقضة، وجدته في افتتاحية تشارلز ديكنز لروايته «قصة مدينتين»، برغم أنه يصف عصرًا أو زمنًا فإنه بدا كأنه يحاور هذا العالم السحري الذي أتحدث عنه: «كان أحسن الأزمان وكان أسوأ الأزمان... كان عصر الحكمة وكان عصر الجهالة.. كان عهد اليقين والإيمان وكان عهد الحيرة والشكوك.. كان أوان النور وكان أوان الظلام.. كان ربيع الرجاء وكان زمهرير القنوط.. بين أيدينا كل شيء وليس في أيدينا أي شيء.....»، في هذا المقطع تمكن ديكنز من تلخيص النطاق الكامل للتجربة الإنسانية، موضحًا أن الحياة عبارة عن سلسلة من المفارقات والتناقضات، توازن بين الفرح والألم، والأمل واليأس، والنور والظلام.

عالم الأحلام، بأوهامه وخيالاته، هو خير مثال على هذه الطبيعة المتناقضة للحياة إنه يوفر هروبًا من الواقع، لكنه يمكن أيضًا أن يصبح سجنًا للعقل، يعد بالخلاص والفداء، ولكنه قد يؤدي إلى مزيد من الألم واليأس. إنه عالم من النور والظلام، الحكمة والغباء، الإيمان والشك، حيث كل شيء ولا شيء ممكن، اعتمادًا على تصور المرء ومنظوره، ورغم كل ذلك فهو عالم جميل... يكمن جماله في قدرته على تحدي تصوراتنا وتوسيع خيالنا، يدعونا لاستكشاف حدود ما نعتبره حقيقيًا وممكنًا، والتشكيك في مفاهيمنا وافتراضاتنا، بل المغامرة في مناطق جديدة ومجهولة للعقل، يشجعنا على احتضان تناقضات الحياة، وإيجاد المعنى والهدف في خضم الفوضى والاضطراب إن تمكنا من فن الإبحار في أعماقه.