تسارَع العالم بصورة غير مسبوقة، تغيرت فيه البنى الاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية، وأضحى متداخلًا، ليس فيه عُزلة لبلد أو دولة كما كان يمكن من قبل، في العصور السابقة وصف المحراث الخشبي بأنه يمكن أن تراه يُستعمل في الزراعة في أوروبا في القرن الخامس الميلادي، وتجده في أوروبا في القرن الخامس عشر، كانت الحياة رتيبة، مفاجآتها قليلة، والتغيّر فيها بطيء.

ومع العصر الصناعي اختلفت الأمور، فتغيّرت الأدواتُ الصناعية، وأضحى إدخال الآلات في كل الأفرع، وصار الإبداع رئيسيًا في الدول والمجتمعات، وسابقت المكتشفات بعضُها بعضًا، كذلك الصناعات، والتقنيات، في عالم كهذا كان الخاسر الأكبر فيه الجمود الفكري، ذاك الذي ارتكز عليه التطرف في الأفكار والأيدلوجيات، فمن تمسك بأقواله بمعزل عما جد حوله في العالَم، لا يصادم جانبًا جزئيًا وثانويًا في العالَم، بل هو في صراع مع البنية الأساسية العالمية، والاجتماعية الجديدة التي يحيا فيها.

إن درس التاريخ يدل على أن الجمود الفكري-وهو سمة أساسية للتطرف-محكومٌ عليها بالفشل والخسارة، وكم من قول تشدد فيه أصحابه، ثم صار أمرًا واقعًا لا يمكنهم أن يتجنبوه، ولن يختفي مهما عورض، فاضطروا إلى التعامل معه، فالواقع أسرع منهم، فما أن مانعوا خطوة، حتى زاحمتهم مستجدات أخرى، فلا يقدرون على التمسك بماضي أقوالهم، حتى يدهمهم جديد مضطرون لبحثه، والنظر في أمره، وبهذا يضحي المتطرف معلّقًا على الأحداث، لا صانعًا لها، فتمسكه الشديد برأيه، يدفعه للتسويغ له، والمجادلة عنه والمناضلة دونه، لا البحث في جديد وابتكاره، فرمز بهذا إلى عقل يحنّ إلى ما عفى عليه الدهر، لا يجعل من الإبداع محوريًا في تصوراته، بل همّه التصدي للجديد في الأساس من تفكيره.


لا ينحصر التطرف في الجانب الديني فحسب، بل يمتد إلى أيدلوجيات غير دينية، بما جعل المؤرخ إريك هوبزباوم يصف القرن العشرين بأنه عصر التطرفات، ففيه تزاحمت الأيدلوجيات، من شيوعية، ونازية، وفاشية وغيرها، سواءً قبل الحرب العالمية، أو أثنائها وبعدها، حينها واجه التطرف التغيرات الأوسع من قوالبه الفكرية، فكان تقدّم العلوم يزيّف دعايات التفوّق العرقي، والنقاء العرقي فيما تبنته النازية، وكان الاقتصاد يحطم المفاهيم الشيوعية، حتى اضطرت دول لا تزال ترفع الراية الحمراء في الرمز إلى انتمائها الأيدلوجي إلى تغيير سياساتها الاقتصادية كما فعلت الصين، دون البقاء على التمسك بحرفية نظرياتها الاشتراكية.

في العلوم الشرعية عُرف تاريخيًا تصنيف في باب المستجدات بـ(النوازل) حتى صنّفت كثير من الكتب تحاول مراعاة المستجد من الأحداث، دون الإبقاء على الآراء الفقهية بجمود متشدد، فعرف الفقهاء مباحث جديدة دارت فيها آراؤهم، وكانت كثير من العلوم في تلك الأزمنة قد اختلطت بالعديد من المباحث الزائفة والخرافات، كاختلاط الكيمياء بالسحر، أو خرافات كالبحث عن إكسير الحياة، في رهينة وقت حتى تطرد الزائف منها، وتبقي على عناصر الحقائق.

ولذلك تعددتْ أنظار الفقهاء المجددين في محاولة لاستخلاص النافع للمجتمعات، فمع تشدد بعض الأقوال في تحريم الكيمياء، كان من الفقهاء كما في (مذهب الحكّام في نوازل الأحكام) في القرن السادس هجرية من انفتح على الجديد، وأجازها ما دام يلتزم أهلها بالعلم، دون خلطها بغيرها مما ليس من حقيقتها.

أمكن للمتطرف أن يبقي على آرائه، لكن ستسبقه الأيام، ويمكن تصوّر الأمر لو أن الأقوال التي حرّمت الكيمياء بقيت على تزمتها رغم كل المستجدات، كيف سيكون حال الدول والمجتمعات لو جرى تبني هذا القول بمعزل عن المستجدات الجديدة في العلوم، إن من أبرز ما يختص به العقل المتطرف الحفاظ على جموده واكتفاؤه بما لديه من معارف، فيدّعي أنه لا يحتاج أي تطوير أو تغيير لما قاله بحجّة أنه هو الحكم الفصل، لكن الأيام مخيّبة لمثل هذه العقلية، فكما له عقل لغيره عقول، وما قدّمه كاتب لمجتمع وللبشر حينًا من الدهر، لا يصلح أن يثبّت في الزمن كل حين فلا يتحرك فوق تلك اللحظة.

فالتقدّم يفرض نفسه، ومن يعارضه إنما يعيق مجتمعه من باب التأخير فحسب، ثم سيلمز الناس أفكاره بأنها حرّمت الجديد ثم قفزت إليه على عجَل، فالجمود أول ما يسيء إلى أفكار المتطرف نفسها، حيث يظهر أنه تعامل مع الجديد من باب الضرورة، لا من باب الاقتناع بأهمية الإبداع بل مع الإبقاء على الحنين إلى ما قبله.