اهتزاز مرعب، أتى على الأبنية، وصل القلوبَ، فتحركت بالعاطفة الجامحة، لمد يد العون للضحايا الذين آلمنا جميعًا مصابهم، كأن الردّات الاهتزازية في كل مكان، الشاشة، والهاتف، وحتى ألسنة الناس، لكن في ظل هذه المأساة، والعنف المزلزل، لا يجب أن يهتز فينا صرح أمننا الفكري!

في الكوارث والمصائب تندفع العواطف، إنها أمر غريزي في البشر أن تكون ردة فعلهم سريعة، ليست مبنية على طول تأمل، هي طريقتنا في البقاء، نسارع إلى الحركة خوفًا من خطر، أو لمد يد العون لبني جنسنا، في أحداث نخشى أن تكون أسرع من تأملنا، وتفكيرنا، لكن هذه الميزة التي غرزت في الإنسان، قد تكون ثغرة ينفذ منها بعض المتربصين، نعم! العاطفة نفسها التي تساهم في إنقاذ إنسان قد تكون مدخلًا لأذية إنسان، في أوقات الأزمات.

في تلك الأوقات تتكفل المقاطع الكثيرة المتتالية إلى غمر العقل بالعاطفة، والإلحاح لتثوير غريزة البقاء للتحرك بضرورة المسارعة، فالوقت ليس في صالحنا، هنا تتحرك أجندات متعددة: كيف يمكنكم أن توصلوا مساعداتكم إلى الضحايا أنفسهم في أسرع وقت؟ أنظروا هذا المشهور على وسائل التواصل قد زار المنطقة، ينشر حسابات متنوعة يمكن عن طريقها إرسال التبرعات، هذا نشر إعلانًا ثم حذفه! لم كل هذا؟


تحرك العديد من الناشطين التابعين لجماعات الإخوان، والفروع المتطرفة المتنوعة، لتنقل دعايتها مع أخبار موجة الهزات الأرضية التي ضربت عدة مناطق وتركزت بعنف في تركيا وسوريا، ليشككوا في الحملات التي نظمتها السعودية، والإمارات وغيرها من الدول، وقالوا: تبرعاتكم لا تصل، هلموا إلينا، ونحن نتكفل بالباقي، دق ناقوس الموسم الذي ينتظره هؤلاء لتنشيط دخلهم الاقتصادي، إنه عصب السياسة، فهو الذي يمول نشاطاتهم، ويجعل العديد من (دعاتهم) مفرَّغين لا شغل ولا عمل كما يقال، هو الذي يمول الإعلانات المشككة في سياسات الدول التي يعادونها، وكذلك يموّل العديد من الجماعات المسلّحة التي يصعب التنبؤ إلى أي جهة ستتوجه فوهات بنادقها، وفي أي وقت يضغطون الزناد!

ليس غريبًا على تلك الجماعات انتهاج العمل السرّي، فإنه لمثير للسخرية ذلك السؤال عن شفافيتهم فيما يذهبون به من الأموال، تلك الأموال أول ما تنفق على الجسم التنظيمي الخفي الذي يشكل قوام تحركاتهم، هو الذي يقوم على الدعاية لهم، مرورًا بدوائر الفساد الشخصي فيهم، وليس في قائمة أولوياتهم أي اسم من الضحايا الذين قضوا أو أصيبوا، وفي الوقت الذي يشككون فيه بدور دول حقيقية قائمة ذات سيادة سارعت إلى مد يد العون إلى جيرانها، ينزعجون من أي سؤال عن مصادر دخلهم، وتمويلهم، وأين يذهبون بالأموال.

أمننا الفكري صرح ثابت يجب ألا يهتز أبدًا، فليس هو بالغر الذي يخدع بمثل تلك الشعارات المسمومة، وهمّها الوصول إلى جيوب المواطنين كيفما اتفق، وبهذا يجب الحذر والتحذير -والمواطن السعودي مضرب مثَل في وعيه وانتمائه لبلده- من الحسابات التي تسوّق لأي جهة غير مرخصة تطالب الناس بالدعم والتمويل، ولا يكفي أن يكون المعلن مشهورًا في وسائل التواصل حتى يسارع المرء بالتحويل إلى الحسابات التي أعلن عنها، إذ اختصرت الدولة الطريق على هؤلاء، وأعلنت عن الواجهة التي يجب أن يتوجه إليها الدعم، رعاية لحق المنكوبين، وحماية للمواطنين حتى لا ترتد تلك الأموال عليهم، وعلى دولهم، وأبنائهم.

الأمن الفكري لا يشكّل معلومات متدفقة فحسب، بل جدارًا لحماية البلاد، بحيث يحلل كل دعاية سوّقت لنفسها في وقت الأزمة، ويدرس إستراتيجيات محاولات الاختراق المتكررة، ويتعلّم الدروس، ويقدم توصياته لتشكيل جسم حام من المناعة، حتى يضحى سجية في الشعوب التي تهضم تلك النتائج والتوصيات التي تقدّم لها، وتكرر الالتزام بها.

ومما يرصده الأمن الفكري في سياق هذه الأزمة، تلك الدعاية التي ثارت لبيان أن مخالفة توصيات وآراء الجماعات المتطرفة هي السبب في مثل هذه الحوادث، وبهذا يحاولون استغلال تلك الأحداث لبث دعايتهم الأيديولوجية، وأخطر ما يكون عليهم نشر التحليل العلمي لفهم الظواهر الطبيعية مثل الزلازل أو العواصف، إذ يفوّت التحليل العلمي، المساحات الفارغة التي يسعون لملئها بآرائهم، وربطهم الاعتباطي بين مخالفة أقوالهم وتلك الحوادث، أمننا الفكري خط أحمر، بجانب عاطفتنا ودعمنا للضحايا والمنكوبين في ظل دولتنا ومؤسساتها الرسمية.