بينما مّن الله علينا بأيام ماطرة على التوالي، وبينما أرقُص ترحابًا على زخات المطر، وقلبي يرفرف كأن له جناحين من الفرح يطير بهما ليذوب بين الغيوم، فالغيوم عائلتي، وأنا بنت الغيم، وعيناي تعكسان ذلك القلب الطائر فمُقلتاي تنبضان معه صانعتين زوجًا جديدًا من القلوب، ملامح وجهي تعكس ذلك الحب الكبير وتلك السعادة التي أشعر بها حين تمطر السماء.

فرحي ذاك جعلني أظن أن العالم بأسره مثلي تمامًا في استقبال المطر، لكني في أحد الأيام الماطرة، سألت إحداهن عن شعورها والدنيا مطر؟فأذهلتني الإجابة حين

قالت: أنا لا أُحب المطر!.

صُدمت وتزاحمت الأفكار في رأسي دهشةً لما سمعت، وعاد قلبي الطائر على إثرها ليقبع خلف أسوار الأضلاع ولتخرج له أُذنان وعينان ليسمع ويرى معي التفسير وبكل جوارحي قلت: لماذا؟!.

أقسم أن تلك الثواني التي سبقت الإجابة كانت طويلة، حتى وددت لو دخلت قلبها لاستبق الإجابة قبل خروجها.

قالت: لأني أتخيل السماء تصِيحُ باكية!

يالله.

كثيرة هي التوقعات التي تخيلتها ولكنها بعيدة كل البعد عن تلك الإجابة. تخيلت جوابًا يتعلق بأمور الحياة مع البلل. أو تذمر حين نُغيب عن جمال الأجواء أثناء ساعات العمل، أو ذكريات حزينة مرتبطة بالطفولة. أي شيء إلا إجابتها تلك.

الإجابة كانت الزاوية الأخرى التي لم أنظر من خلالها طوال ثلاثة عقود من عمري، وصفها لشعورها بثلاث كلمات عجزت أن أتخطاه بعد ما يُقارب الشهر على محادثتنا تلك.

بها فتحت لي نافذة لم تُفتح من قبل. صدمتي حين قالت: أنا لا أُحب المطر.. وأنا المُتيمة به.. تعليل الإجابة أذهلني لأسابيع، وأصدقكم القول أنني خرجت بعدها وأنا أحمل رأسي بين يدي فهو ثقيل؛ لأنني ببساطة بدأت أقيس كل آراء الأرض على هذا الموقف!.

كيف لنا أن نتطرف ونُغالي ونُبالغ في رأي أو شعور أو تعبير ونُبحر في ذلك التوجه مُتناسين تمامًا ما عداه!.

كم هنالك من زاوية لم ننظر منها؟!.

وكم من منظور قد ننطلق من خلاله؟!

وكم من أفق يعلو أو ينخفض عن ذاك الأفق الذي نقبع فيه؟!.

وكم وكم وكم.

هو موقف عابر وبسيط لكنه عميق ولامس شيئًا في داخلي، لا أعلم ما هو بالتحديد

لكني بعده لم أعد كما أنا!.

أصبحت أتخيل كم شخص قد يشعر بعكس الشعور الذي أشعر به تجاه الأشياء في كل مرة.

بدأت أصيغ السيناريوهات التي تحدث حين تختلف الآراء وما الذي سيحدث ويتغير وكيف سيكون الشعور حينها.

و و و.. كم هائل ومتسلسل وكأنها لوغاريتمات لتلك الإجابة، لأقف حائرة أمام التصور العظيم: أتصور كيف تبدو طفولة المطر لديّ لو كُنت أتخيل أن السماء تصيح باكية!.

لم أكن سأكون ما أنا عليه الآن، ولم أعد كما كنت قبل فلسفة المطر!