هل حدث أن مررت بأحداث أو خبرات معينة في علاقاتك، بغض النظر عن نوع العلاقة، ووجدت أنك هدف لوم خارجي مستمر من شخصية معينة، مما يجعلك تتساءل عما حدث بالفعل؟

قد تجدك تتمنى لو أنك سجلت دليلا على التواصل، لأن ذاكرتك عن المحادثة أو الحادثة تختلف تمامًا عن ذاكرة الآخر أمامك.

ذكرت إحدى الموظفات خبرة مؤلمة لها: «غالبًا ما كنت أنا ومديرتي نتجادل حول أمور بعضها مهم وبعضها عادي، عندما لاحظت أنها تشوه الحقائق، وتنكر أنها قالت أي شيء، أتذكر أنها قالته فعلًا، كان الأمر يبدو كما لو أنها تحاول إعادة كتابة الماضي. بدأت أشعر بالارتباك والخوف للغاية، لدرجة أنني كدت أفقد تمكني من الواقع، فعند وقوع كل حادثة من هذا النوع بيننا، كنت أشعر بأنه لم يكن لدي أي فكرة عما هو حقيقي وما هو غير حقيقي، وكنت خائفة جدًا من سؤال أي شخص آخر، لربما وجدت أنني كنت حقًا مخطئة! لقد نجحت بتشكيكي في ذاكرتي... في ذاتي!

في البداية شعرت بالحماقة وعدم اليقين ولكن بعد تكرار هذه الأحداث معها، خرجت من دائرة الأحداث وبدأت أدرس الوضع وأحلل وأقرأ عن خبرات مماثلة لما كان يحدث معي، عندها توصلت إلى حقيقة ما كانت تفعله، وشعرت بألم وغضب لإدراكي أنه تم اختراقي للتلاعب بقدراتي العقلية!».

ما سبق هو شكل خفي من أشكال الإيذاء النفسي الذي يخلق بيئة من الشك الذاتي والارتباك وانعدام الأمن لدى الضحية، إنها تقنية قاسية وماكرة تستخدم لإرباك الشخص والتحكم فيه بجعله يتساءل عن حكمه، وواقعه، ومعتقداته، وهذا ما يطلق عليه علماء النفس «التلاعب العقلي» أو بالإنجليزية «Gaslighting»، وذكرت في مقالة سابقة عن المصدر الذي استعار منه علماء النفس هذا المسمى.

استخدام التلاعب العقلي في بيئة العمل يعد من الأمور الخطيرة، لما يخلفه من آثار مدمرة على الموظفين. وعادة ما يحدث من قبل شخص ماكر في موقع سلطة يعاني من النرجسية، يتلاعب بإدراك الفرد للحصول على ميزة تقويض الضحية حتى لا تتمكن من التحدث أو الاعتراض. بعد ذلك، يمكن أن تسير العلاقة بالطريقة التي يريدها. والخطورة تكمن في أن ذلك قد يؤدي لمشاكل صحية عقلية طويلة الأمد، مثل القلق والاكتئاب ما يضعف قدرة الموظف على التفكير بوضوح واتخاذ القرارات!

مثلًا عندما يصدر صاحب العمل أو المشرف المسؤول بيانات غير صحيحة أو مشوهة عن الموظف أو إلى الموظف، ويستمر في تكرار ذلك بعد الإنكار في كل مرة أو إلقاء اللوم عليه لأي شيء سيئ يحدث، قد يكون هو– المشرف- من تسبب به أصلًا، بعد ذلك يتم تحريف كل نقاش لتشعر الضحية بأنها مخطئة وأنها من تسبب بالمشكلة، لا يعطي فرصة للتفكير أو يتقبل أي تبرير حتى لو كان منطقيًا، ويحاصر الضحية باللوم والمقارنات الوهمية بالغير. عندها يشعر الموظف بالارتباك والإحباط والغضب والعجز وانعدام الثقة بالنفس، كما يمكن أن يؤدي ذلك- أيضًا- إلى الخوف من الاعتراض عند مواجهة أشكال أخرى من الإساءة أو التمييز أو الظلم، إلى أن يصل الأمر لتآكل تقدير الذات لدى الموظف ويشعر بعدم الاعتراف وعدم الاحترام، ما يؤثر سلبيًا في بيئة العمل، ويؤدي إلى انخفاض الإنتاجية وارتفاع معدل التسرب الوظيفي. لذا يجب توعية جميع الموظفين بهذا النوع من التلاعب العقلي، حتى يتمكنوا من التعرف على العلامات واتخاذ خطوات لازمة لحماية أنفسهم.

إذا شعرت يوما بأنك تتعرض لهذا النوع من الإساءة النفسية، فمن المهم أن تواجه وتدافع عن نفسك، وأن تتحدث إلى شخص تثق به، مثل صديق أو فرد من العائلة أو زميل عمل، واطلب الدعم والمشورة حول كيفية التعامل مع الموقف، ولا تنس أن توثق قدر الإمكان المحادثات أو التفاعلات، وتعرضها عند الحاجة لأنه سوف ينكر ويتلاعب بخاصة إن لم يكن هنالك شهود على سلوكه معك. وتذكر أن إحدى طرق الاستفراد بالضحية هي استخدام استراتيجية «فرق تسد»، أي إقصاء الضحية عن بقية منسوبي بيئة العمل والأسرة إن أمكن، بأن يقنعهم أولًا بأن الضحية غير جديرة بالثقة حتى ولو من باب أنه يذكر الحادثة على أنه خائف عليها ويريد مصلحتها من خلال التشاور معهم، وبالوقت نفسه يعمل على إقناع الضحية بأن زملاء العمل لا يمكن الاعتماد عليهم، وهم لا يسعون لصالحه، بل يريدون تحطيمه وفشله، وأنه الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه لأنه لا يمكن الوثوق بأن غيره يَصدُق معه كما يفعل، فهو من لديه القدرة على أن يرى أن الغير لا يريدون سوى الاستغلال، بينما لا يريد سوى حمايته من كل ذلك!

لا ينبغي التسامح أو التغاضي عن هكذا سلوكيات في بيئة العمل، إنك كموظف، لديك الحق في الشعور بالاحترام والتقدير، فإن كنت تشعر بأنك لا تستطيع أن تواجه أو تجد صعوبة في إقناع أصحاب العمل بما يجري، عليك بالخروج فورًا من هذه البيئة السامة، لأن صحتك العقلية أهم من كل شيء، وتذكر بأنك إنسان حر ولا يحق لأي أحد أن يتلاعب بقدراتك العقلية وأن يتحكم بك من خلال تصديق أنك غير قادر على التصرف الصحيح واتخاذ القرارات السليمة.