يقول بعض الناس هداهم الله: إنه يتعذر فهم كلام الله ورسوله فهمًا صحيحًا، وبالتالي فإن النص وإن كان صحيحًا، إلا أنه لا يستطيع أحد أن يفهمه فهما صحيحًا، لأن الفهم غير مقدس.

وهي شبهة ساقطة داحضة، وتعليل عليل بل ميّت، ويلزم عليها لوازم باطلة، وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم، ومن تلك اللوازم الباطلة:

-1 مقتضى شبهتهم: أن القوانين البشرية، والمناهج الفلسفية والنظم الديمقراطية والليبرالية والعلمانية، يفهمها الناس ويعملون بها، وأما كلام الله وكلام رسوله، فإنه يتعذّر فهمه فهمًا صحيحًا، وكأن الله لم ينزل كتابه عربيًا مبينًا واضحًا ونورًا وهدى وفرقانًا ومُحْكَمًا، وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأت بجوامع الكلم وأفصح العبارات.

كما أنه يلزم على شبهتهم: أنه ليس هناك فهم صحيح للشريعة، ولا تطبيق صحيح لها، منذ ما يزيد عن ألف عام، فهذا لازم دعواهم، وبطلان هذا اللازم يدل على بطلان الملزوم.

-2 يلزم من هذا القول: عدم قيام الحجة على الخلق، وبالتالي يكونون معذورين، فإذا فهم الخوارج أو غيرهم من جماعات العنف، إذا فهموا كتاب الله وسنة رسوله بفهمهم وقتلوا الناس، وزعزعوا الأمن، فيلزم على قول أصحاب تلك الشبهة، أنهم غير مؤاخذين، لأن القرآن والسنة وإن كانا مقدسين، إلا أن الجزم بفهمهما متعذر، وبالتالي لا يلام الخوارج لأنهم يقولون هذا هو فهمنا، وليس هناك فهم مقدس تحتجون به علينا، وليس فهمكم أولى من فهمنا، وبطلان هذا اللازم يدل على بطلان الملزوم.

-3 أن في ذلك هدم للشريعة، وتنحية لها، إذ - على قولهم - يكون لا فائدة من النصوص الشرعية، مادامت صامتة لا يُجزم بفهمها فهما صحيحًا، ولا يحتج بإجماع، ولا يحتج بفهمٍ للصحابة الذين أمرنا الله باتباع سبيلهم في فهم النصوص فقال تعالى (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) فالمؤمنون هم الصحابة، لأنهم هم المؤمنون وقت نزول الآية، فالله يأمرنا باتباع سبيلهم وأهل الأهواء، يقولون ليس هناك فهم معتبر، بل لكلٍ فهم، ففتحوا بذلك باب الضلال، فدخل منه: الخوارج والمعتزلة والمرجئة والرافضة والمتفلسفة وسائر أهل الضلال.

-4 يلزم من قولهم: أنه لامعنى لأمر الله من رد المتشابه إلى المحكم، ولا معنى لتدبر القرآن، ولا معنى لأمر الله للناس أن يتحاكموا إلى كتابه، لأن الحاكم بما أنزل الله بشر، وله فهم، وعندهم لا اعتبار لفهم أحد للنص.

-5 يلزم من قولهم: أنه لا يقبل إلا قول المعصوم والمقدّس، وهذا غير صحيح، فالعلماء موثوقون، وإن لم يكونوا معصومين ولا مقدّسين، ألا ترى أن الله استشهد بهم من دون سائر الناس، على أعظم مشهود به وهو التوحيد فقال تعالى (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْط).

5- يلزم على قولهم: أن حال الناس بدون الحكم بالكتاب والسنة أحسن من الحكم بهما، وأن أنظمة اللبرالية والعلمانية، أهدى سبيلا من حكم الله ورسوله، ولهذا يدندنون على تنحية الشريعة من الفصل والحكم بين الناس.

فيالله ما أعظم جرأتهم، فاللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك.

الحكم بما أنزل الله، لا يعني عدم صلاحية الأنظمة والقوانين التي لا تخالف الشريعة، كلا، فكل نظام يقرره ولي الأمر ذو البيعة الشرعية، لا يتعارض مع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو واجب الاتباع شرعًا، لقوله تعالى ( ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم).

ولو كان ولي الأمر لا يطاع إلا بما أمر الله به ورسولُه، لما كان له مزية عن غيره من الناس، فكل أحد إذا أمر بما أمر الله به ورسوله فإنه يجب أن يُطاع، ولكن ولي الأمر يطاع بهذا، ويطاع إذا سن نظامًا فيه مصلحة لا تخالف شرع الله، كأنظمة المرور، والتعليم، والصحة والأمن وغير ذلك، وطاعته في ذلك من طاعة الله تعالى الذي أمر بطاعته في غير معصية، وهكذا العقود والصلح ونحوهما، كما يدل عليه قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُود)، وفي الحديث (المسلمون على شروطهم)، وقد صالح النبي صلى الله عليه وسلم كفار مكة، وصالح يهود المدينة، فكل المصالحات والعقود والأنظمة والقوانين التي لا تخالف الشريعة إذا عقدها، وأمر بها ولي الأمر ذو البيعة الشرعية في الدولة، فإنه يجب الالتزام بها شرعًا.