حين نتحدث عن العملية التعليمية، يتبادر إلى الذهن غالبًا المناهج التعليمية، لكن المناهج ما هي إلا مجرد حجر واحد من فسيفساء تشكل العملية التعليمية بشمولها. التعليم لا ينفصل بدوره عن توجه الدولة، وبالتالي حين يحدث عدم توازن بين إيقاع التعليم وتوجه الدولة، يحدث شرخ في إعداد المواطنين علميًا، وفكريًا، ونفسيًا، لما تصبو إليه بلادهم، من تطوير ودور ورسالة.

لا بد أن نستحضر ونحن نتحدث عن العملية التعليمية، أن موجة كبيرة نالت من التعليم بوجه عام في المنطقة العربية، وتحديدًا بعد سبعينات القرن العشرين، حين تمكن العديد من المحسوبين على الإخوان وفروعهم من إعداد المناهج، وقراءة التاريخ والعالم، والمستقبل وفق أدبيات غير علمية، بل أيدولوجية ذات مضامين سياسية أكثر من محتواها العلمي.

تلك الموجة كشفت عن خطورة أن تتحول أروقة التعليم إلى محاضن لأطروحات متطرفة، تظهر نتائجها بعد جيل أو جيلين، بالمناسبة هذه الطريقة التي انتهجها الإخوان في المنطقة العربية كانت مسبوقة من الاشتراكيين في أوروبا، حين اخترقت أروقة الجامعات التوجهات اليسارية المتطرفة بشدة، وحين كانت بلادهم في مواجهة مع الاتحاد السوفييتي، كان في الجامعات من يدافع عن النموذج الاشتراكي في الحكم، أو يسعى لمهاجمة الأنظمة الاقتصادية والسياسية في الغرب، فلم تكن طريقة الإخوان جديدة، وإن كانت أقل كفاءة، من نظيرها اليساري.


حين يتم الحديث عن التعليم والمناهج، فحتمًا تكون المادة العلمية هي المرشحة، في مقابل أي مادة غيرها، فالعلم هو الذي يُعنى بنقله إلى الطلاب، وفق أحدث منتجات العلم المقصود، لكن المناهج متى جرى التدقيق فيها، لا يجب إغفال العناصر الأخرى من العملية التعليمية، ومن أهمها الإشراف والمراقبة، والتدقيق في أهلية المعلمين. فالمعلم يشكل عنصرًا أساسيًا، فهو الذي يلتقي الطلاب وجهًا لوجه، بل يشكل نموذجًا وقدوة لهم، هل هو مؤهل، هل يدرّس مادته بكفاءة، أم أن غالب حديثه عن تجاربه الذاتية، وأفكاره الشخصية؟

في ظل غياب تدقيق مؤسساتي، تزيد الفسحة بشكل أكبر للمعلمين للانفراد بالطلبة، مع أن مفهوم التعليم الحديث قائم على مؤسسة، ومعنى هذا أن كل مسؤول عليه رقابة في الحين نفسه، ومن هنا يأتي دور الإشراف والمراقبة، الدائمة، والمفاجئة، لضمان سير العملية التعليمية كما يجب. فهل يقبل على سبيل المثال، أن يستغل مدرّس نصيبه في التدريس لمهاجمة مادة أخرى مقررة على الطلاب، أو تسخيفها، وإضعاف الحافز في الطلاب على تلقيها، كالتفكير النقدي، والفلسفة، ونحو ذلك.

في الولايات المتحدة الأمريكية - على سبيل المثال - يحتل الإشراف والمراقبة، والتقييم الدوري للأساتذة والمعلمين دورًا كبيرًا في مؤسسة التعليم.. ما مدى تركيز الطلبة، ما قدرة المعلم على جذب الطلاب طيلة الدرس، ما الخطة المنهجية التي يتوزع فيها التعليم على مدار العام، وقدرة الأستاذ على الابتكار في مجاله لمصلحة الطالب؟

هذا التقييم الدوري، يجعل المدرس جزءًا من التعليم، لا إنه هو الوحيد الذي يمكنه تشكيل الطلاب كما يشاء بعيدًا عن المؤسسة التي يعمل فيها، وتقييم المعلّم الدوري أساسي لضمان استمرارية جودة التعليم، فمع الزمن، والعمل الاعتيادي قد تنخفض كفاءة بعض المعلمين بشكل ملحوظ.

في الجامعات، وهي الموطن الذي سينتقل إليه الطلاب بعد المدرسة، مجال الحرية أكبر، والجيل الذي سيتخرج منها هو الذي سيتوزع على مختلف المرافق في الدولة، من إعلام، وصحة، وتعليم، وإنتاج، وغير ذلك. متى كان الإشراف والتدقيق، واختيار المناهج علميًا أكثر، فإنه سيرفع من كفاءة المواطنين في الإنتاج، إلى جانب الكفاءة الفكرية والانتماء، والوعي بخطورة العديد من الأفكار حين يرون سذاجتها مقارنة بالمنهج العلمي الذي تعلموه، وقدرتهم النقدية العالية التي تسعى الجامعات الحيّة إلى تعزيزها وتطويرها.

لا بد أن تكون العملية التعليمية في الجامعات متميزة بكفاءة عالية لضمان ألا تتحول إلى محاضن أيدلوجية معادية، بل أن يراد منها ما خصصت له من التعليم والتثقيف، وما يعزز الانتماء إلى البلاد، تلك النظرة لا يمكن أن تتحقق متى انحصرنا في النظر إلى التعليم كأنه قطعة واحدة من الزمن، بل هو عملية مستمرة، كل حلقة توصل لما بعدها، مع ارتباط التعليم بالوطن، والدولة، وما تطمح له.